للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك, وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)) (١).

هل يتوقع بعد ذلك ممن ينتسب إلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الحريص على هداية الناس أن يقول: (ينبغي أن لا نضيع جهودنا وأوقاتنا في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر حيث إنهم لا يستجيبون؟).

احتجاج أصحاب الشبهة ببعض الآيات:

يحتج أصحاب هذه الشبهة ببعض النصوص التي جاء فيها – على حسب زعمهم – الأمر بالتذكير مشروطاً بالنفع، أو مخصوصاً لمن خاف الوعيد، أو خشي الرحمن بالغيب، واتبع الذكر. ومن هذه النصوص:

قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: ٩].

وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: ١٨].

وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ [يس: ١١].

وقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥].

قالوا: نجد في هذه الآيات بأن الله تعالى اشترط لأمره بالتذكير نفع الذكرى، كما أرشد نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقتصر في إنذاره على (من يخاف الوعيد). (وخشي الرحمن بالغيب)، و (اتبع الذكرى).

لذا لا داعي لبذل الجهود في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر وهم لا يستجيبون.

كشف النقاب عن حقيقة الاحتجاج:

سنبين بتوفيق الله تعالى حقيقة احتجاجهم بالآيات من وجهين:

١ - النظر في سيرة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم تلك الآيات.

٢ - المراد بالآيات على ضوء تفسير المفسرين.

أولاً: النظر في سيرة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم تلك الآيات:

أنزلت تلك الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يتلوها على المؤمنين، ويعلمهم إياها، وإليه أسندت مهمة بيانها، وكان صلى الله عليه وسلم صورة حية لما نزلت عليه من الآيات لنا أن نسأل هؤلاء هل ترك صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب إعراض الناس؟، كلا، فقد استمر في التذكير والإنذار رغم عناد الكفرة وتمردهم، والفهم الصحيح للآيات هو فهمه صلى الله عليه وسلم، وكل استنباط أو استدلال يعارض فهمه وعمله باطل ومردود على صاحبه.

ثانياً: المراد بالآيات على ضوء تفسير المفسرين:

بيَّن المفسرون المراد بتلك الآيات فأجادوا وأفادوا جزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء، وسنذكر بعض ما ذكروا – بعون الله تعالى – في هذا المقام.

أما قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى فنترك مجال تفسيره للإمام الرازي حيث يقول مثيراً بعض الأسئلة حوله:

السؤال الأول: أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم، فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى؟

الجواب: أن المعلق (بإن) على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه الآيات، منها هذه الآية.


(١) رواه مسلم (١٧٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>