للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم والتقربات بالصناعة الفلكية، والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله، والتجأ إليه، معرضاً عن الكواكب، وناهياً عن الاستناد إليها؛ إذ قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)) ... الحديث (١) وإن تحرى وقتاً، أو دعا إلى تحريه، فلسبب بريء من هذا كله؛ كحديث التنزل، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار، وأشباه ذلك) إلى أن قال رحمه الله: (وهذا الموضع مزلة قدم للعوام، ولكثير من الخواص؛ فلتتنبه له) (٢).

خرق العادة بمجرده لا يدل على الولاية:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول، مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي الله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله؛ كأكابر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟!

وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفه في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة؛ مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه.

وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله- فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.

مثال ذلك: أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف ... ) (٣). اهـ.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله:


(١) رواه البخاري (٨٤٦)، ومسلم (٧١).
(٢) ((الموافقات)) (٢/ ٤٤٤ - ٤٤٦).
(٣) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: ٦١ - ٦٢)، وانظر: ((ولاية الله والطريق إليها)) (ص: ٢٥٢ - ٢٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>