للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعاً؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: ١٠٢]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.

وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛ كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه، وإن لم يكن مقصوداً له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بشرتها، أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: (أنا ربك)، أو يرى ويسمع من يقول له: (قد أحللت لك المحرمات)، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على ذلك ما سواه، وبالله التوفيق) (١). اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

(خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة) (٢).

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله:

(ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره. بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها، فهي حق، وصدق، وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبس عليه) (٣). اهـ.

وقال الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب – بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي – رحمه الله تعالى -: ( .. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب – ليس دليلاً على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على ولايته لله البتة؛ فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام) (٤). اهـ.

(إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بولاية كل من فعل خارقاً من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المشعوذين: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فتدخل في أجواف الأصنام وتصدر أصواتاً، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها.

ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عبدت من دون الله) (٥).

من القادر على التمييز بين (الأحوال الرحمانية) و (الأحوال الشيطانية)؟


(١) ((الموافقات)) (٢/ ٤٨١ - ٤٨٢) بتصرف، وانظر: ((مدارج السالكين)) (١/ ٤٨ - ٤٩).
(٢) ((فتح الباري)) (١٢/ ٣٨٥).
(٣) ((ولاية الله والطريق إليها)) (ص: ٢٤٩).
(٤) نقله عنه في ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) (ص: ٤٦٦).
(٥) ((الرفاعية)) (ص: ٩٤ - ٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>