للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتمكن إبليس من الإنسان على قدر حظه من العلم، فكلما قل علمه اشتد تمكن إبليس منه، وكلما كثر العلم قل تمكنه منه؛ ولذلك لا تشتبه (الكرامة الرحمانية) بالحال (الشيطانية) إلا عند الجهال، وأهل الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول الله رب العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين، وأولياء الشيطان الضالين) (١). اهـ.

وقال ابن الجوزي رحمه الله:

(ومن العباد من يرى ضوءاً أو نوراً في السماء، فإن كان في رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره قال: فتحت لي أبواب السماء، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اختباراً، وربما كان من خدع إبليس، والعاقل لا يساكن شيئاً من هذا، ولو كان كرامة) (٢).

كان أبو ميسرة فقيه المغرب يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورا قد خرج من الحائط، وقال: تمل من وجهي؛ فأنا ربك، فبصق في وجهه، وقال: (اذهب يا ملعون) (٣)، فطفئ النور (٤).

(وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسناد عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: (يا أبا عمران، قد أصبحت اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهل الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص)، فقال: (لا تصدق بها، فإنها ليست لك)، قلت: -أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة- فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبعد الاغترار عنهم، وكيف أخبره أنها لقطة، ولم يلتفت إلى ما يشبه الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدق بها لئلا يظن أنه قد أكرم بأخذها وإنفاقها.

وبإسناد عن إبراهيم الخراساني أنه قال: احتجت يوماً إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت.

قلت: في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قل علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله تعالى لا يكرم بما يمنع استعماله شرعاً، إلا إن أظهر له ذلك على سبيل الامتحان) (٥).

قال القشيري: (قال إبراهيم الخواص: طلبت الحلال في كل شيء حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها شعرا، وجلست على الماء، فألقيت الشص، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية، فخرجت لي سمكة. إذ من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي، ولا رأيت أحداً وسمعت قائلاً يقول: أنت لم تصب رزقاً في شيء إلا أن تعمد إلي من يذكرنا فتقتله. قال إبراهيم: فقطعت الشعر، وكسرت القصبة، وانصرفت) (٦).


(١) ((الفرقان)) (ص: ٦٦).
(٢) ((تلبيس إبليس)) (ص: ٥٢٩).
(٣) لأن الله تعالى لا يرى في الدنيا، ونور الله تعالى لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل وتدكدك، انظر: ((مدارج السالكين)) (٣/ ٢٢٩).
(٤) ((سير أعلام النبلاء)) (١٥/ ٣٩٦).
(٥) ((تلبيس إبليس)) (ص: ٥٣٣).
(٦) ((الرسالة القشيرية)) (ص: ٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>