للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد بين ابن حجر أن اختلاف هذه الروايات محمول على التعدد، فقد جاء الشيطان مرة في صورة رجل فقير يطلب الصدقة، ومرة أخرى في صورة فيل، وفي روايات أخرى ذكرها ابن حجر أنه جاء في صورة دابة تشبه الغلام المحتلم، فعن أبي بن كعب: ((أن أباه أخبره أنه كان لهم جرن فيه تمر، وكان مما يتعاهده فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيأة الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت: جن أم أنس؟ فقال: جن، فقلت: ناولني يدك, فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم من أحد هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني إنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، قلت: فما الذي يحرزنا منكم؟ فقال: هذه الآية، آية الكرسي, قال: فتركته، وغدا أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الخبيث)) (١). إلى غير ذلك.

وهذه الروايات بمجموعها تدل على تشكل الجن ورؤيتهم في صورهم التي تشكلوا بها.

٤ - روى مسلم في صحيحه ((أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. فسمعت تحريكاٍ في عراجين في ناحية البيت. فالتفت فإذا حية. فوثبت لأقتلها. فأشار إليّ: أن أجلس. فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار. فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق. فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوماً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك. فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه. ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة. فأهوى إليها الرمح ليطعنها به. وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش. فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به. ثم خرج فركزه في الدار. فاضطربت عليه. فما يدري أيهما كان أسرع موتاً. الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له. وقلنا: ادع الله يحييه لنا. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا. فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام. فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. فإنما هو شيطان)) (٢).

ففي هذا الحديث دلالة على أن الجن يتشكلون في صورة الحيات، وقد كانت تلك الحية التي دخلت البيت عبارة عن جن في صورة حية، صرع الفتى بسببها، ولذا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل حيات البيوت قبل استئذانها ثلاثة أيام، لئلا تكون تلك الحية جناً مسلمين.

فعن عمر بن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوماً عند هدم, فرأى وبيص جان فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر, وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر, ويتبعان ما في بطون النساء) (٣).

وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا ذا الطفيتين، فإنه يطمس البصر, ويصيب الحبل)) (٤).


(١) رواه النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (٩٦٠)، وابن حبان (٣/ ٦٣) (٧٨٤)، وأبو نعيم في ((دلائل النبوة)) (ص:٥٢٥)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (٧/ ١٠٨)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٢/ ٣١٧). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (٧/ ٧٣٨): صحيح ثابت.
(٢) رواه مسلم (٢٢٣٦).
(٣) رواه مسلم (٢٢٣٣).
(٤) رواه البخاري (٣٣٠٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>