للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولاً: أن الاستثناء في هذه الآيات إنما هو استثناء منقطع، قال ابن حجر الهيتمي: (ومن الواضح أن دلالة كان من الجن لأن كونه منهم أظهر من دلالة الاستثناء على كونه من الملائكة، لأنه يأتي منقطعاً كثيراً، قال تعالى: مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: ١٥٧]) (١). وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: ٧٧]. فرب العالمين ليس من الأول، وكقولنا: جاء بنو فلان إلا أحمد، وليس منهم إنما هو عشيرهم.

ثانياً: ... قال ابن كثير: (إن الله لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم، إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفته الأمر) (٢).

وقال الزمخشري: (إنما تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة لأن إبليس كان في صحبتهم, وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجِنِّي الذي معهم أجدر بأن يتواضع) (٣).

ثالثاً: وذكر بعضهم أنه يمكن أن يقال: إن الجن من جنس الملائكة من حيث لطافة الجسم، وعدم رؤية البشر له، فيكون الاستثناء متصلاً مع كون إبليس من عنصر الجن حقيقة، لدلالة قوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: ١٢].

رابعاً: وذكر بعضهم أن الجن كانوا مأمورين بالسجود مع الملائكة، ولكنه استغنى بذكر الملائكة لمزيد شرفهم عن ذكر الجن (٤) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص٤٧٥

القول الراجح

وبعد هذا العرض لأدلة الفريقين وأجوبة كل فريق على أدلة الفريق الآخر يتبين لنا رجحان القول الثاني، بأن إبليس من الجن وليس من الملائكة، وذلك للأسباب التالية:

١ - صراحة ما اعتمدوا عليه من آية سورة الكهف في أن إبليس كان من الجن في قوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، قال الشيخ الشنقيطي: (وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال إنه غير ملك لقوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي، والعلم عند الله تعالى) (٥).

٢ - أن ما ورد في الكتاب والسنة من وصف إبليس بالعصيان، وأن له ذرية، وأنه مخلوق من النار، وأنه يأكل ويشرب، يدل دلالة ظاهرة على أنه من الجن، لأن هذه الصفات من صفات الجن دون الملائكة.

٣ - أن الاستثناء المنقطع يأتي في القرآن وفي كلام العرب كثيراً كما تقدم من الأمثلة.

٤ - استقامة توجيههم استثناء إبليس من الملائكة من جهة المعنى في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: ٣٤]. وغير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها الجمهور في قولهم بأن إبليس من الملائكة وليس من الجن، وذلك لأن الآيات التي استثنته من الملائكة توحي بأنه كان يتعبد الله معهم لاختلاف صفاته عن صفاتهم، فبمقتضى الأمر أن يتوجه إليه الخطاب بالسجود مع الملائكة، لأنه أصبح واحداً يعيش معهم، ولكنه لم يخرج عن أصله بأنه من الجن.


(١) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: ٩١).
(٢) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (١/ ٥٣).
(٣) ((الكشاف)) (٣/ ٩١).
(٤) ((تفسير روح المعاني)) (١/ ١٢٠).
(٥) ((أضواء البيان)) (٤/ ١٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>