للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما تقدم يظهر لنا أن الذنوب التي تحصل من المؤمنين لا تحدث بسبب أن للشيطان سلطاناً عليهم، لأنها ذنوب يتبعها التوبة والاستغفار، فيعودون أقوى مما كانوا عليه من الإيمان، وسلطان الشيطان على الكافرين إنما يكون بسب استمرارهم على فعل المعاصي، حيث قد جعلوا للشيطان سبيلاً إلى قلوبهم، فلا يقلعون من معصية إلا عادوا لها أو أشد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: ٨٣]. وقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة: ١٩]. وقال: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: ٣٦]. وقال: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: ٢٥]. وغير ذلك من الآيات.

فهذه الآيات قد دلت على أن الشياطين إنما تتسلط على الكافرين بسبب متابعتهم لها فيما تزين لهم من المعاصي، لأنهم لم يلجأوا إلى الله في دفعها عنهم، فخلى الله بينهم وبينها، فأزعجتهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية، وأغرتهم إغراء بالشر، فلا يفترون قائلين لهم: امضوا في هذه المعاصي، حتى توقعهم في النار، فهؤلاء هم القرناء من الشياطين الذين تحدثت عنهم الآيات القرآنية كقوله تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت: ٢٥].

قال الطبري: (أي بعثنا لهم نظراء من الشياطين فجلعناهم قرناء قرناهم بهم يزينون لهم قبائح أعمالهم، فزينوا لهم ذلك) (١). وهؤلاء القرناء يصاحبون أصحاب المعاصي في الدنيا فيمنعونهم من فعل الطاعات، ويحضونهم على فعل المعاصي، ثم يصاحبونهم عندما يقومون من قبورهم في الآخرة، كما ذكر الإمام القرطبي (٢).

فهؤلاء الكفرة هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فغلبهم وقوى عليهم وأحاط بهم، فلا يستطيعون التفلت منه بعد أن سلموا أنفسهم له يتصرف بها كيفما يريد، فلا عذر لهم في متابعتهم له، لأنه ليس له عليهم أي سلطان يجبرهم على طاعته، إنما الخور في نفوسهم هو الذي جعلهم يقعون في شراك وسوسته، كما حصل مع الذي انسلخ من آيات الله في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٦].


(١) ((تفسير الطبري)) (٢٤/ ١١١).
(٢) ((تفسير القرطبي)) (١٦/ ٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>