للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ذكر بعض المفسرين أنه بلعم بن باعوراء رجل من بني إسرائيل كان قد أوتي النبوة، وكان مستجاب الدعوة، فلا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وذكر بعضهم أنه أمية بن أبي الصلت، كان قد قرأ كتب أهل الكتاب التي تبشر بمجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكفر به عندما بعث، وغير ذلك من الأقوال في شأن هذا الرجل (١). قال الإمام الطبري: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله – تعالى ذكره – أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان آتاه حججه وأدلته وهي الآيات .. وجائز أن يكون الذي أتاه الله ذلك بلعم، وجائز أن يكون أمية) (٢).

لكن هذا الرجل خرج من الآيات التي آتاه إياها فلم يعد له صلة بها، فأتبعه الشيطان، أي: صيره تابعاً وقريناً له ينتهي أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن، فأصبح من المتمكنين في الغواية وهم الكفار، ولو شاء الله لرفعه بهذه الآيات التي أعطيها منزلة عظيمة، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة، واتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله، فأصبح كالكلب يلهث في كل أحواله: في الصحة والمرض، والراحة والتعب، فهذا الرجل لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ, وذكره المذكر, وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك فهو مستديم على فعل المعصية بتركه لآيات الله واتباعه للشيطان (٣).

فهذا المثل ضربه الله لكل من يتلو القرآن أن يعتبر بهذا الرجل الذي انسلخ من آيات الله، فصار أمره إلى ما صار من اتباع الشيطان له، فإن كل من يعرض عن آيات الله يؤول مصيره إلى مثل ما صار إليه ذلك الرجل، وفي ذلك دلالة على تخلي الله عن المكذبين بآياته وتركهم فريسة للشيطان يوجههم كيف شاء كما في قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: ٧١].

فالذين يعرضون عن الله تستهويهم الشياطين، فيسارعون إليها في معصيتهم لله، فيصبحون حيارى تائهين في الأرض (٤)، وهي صورة بليغة رسمها القرآن لكل معرض عن هدى الله سبحانه وتعالى.

وهكذا يتبين لنا أنه لا سلطان للشيطان على الناس، وإنما استجاب له بعضهم بمجرد دعوته إياهم، جرياً وراء أهوائهم وأغراضهم وشهواتهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا ما بأيديهم واستأسروا له، سلط عليهم عقوبة لهم، وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: ١٤١]، فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سبيلاً حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فحينئذ له عليهم تسليط وقهر، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه توجب سلطانه، والجميع بقضاء من الله ومردها إليه (٥).

الأنبياء وعصمتهم من الشياطين:


(١) ((تفسير الطبري)) (١٣/ ٢٥٣).
(٢) ((تفسير الطبري)) (١٣/ ٢٥٣).
(٣) ((تفسير الطبري)) (١٣/ ٢٥٩) و ((تفسير فتح القدير)) (٢/ ٢٦٥).
(٤) ((تفسير الشوكاني)) (٢/ ١٣٠).
(٥) ((مختصر إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان)) (ص: ٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>