للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا لم يكن للشيطان سلطان على المؤمنين لأخذهم بالأسباب التي تدفع كيده ووسوته فمن باب أولى أن لا يكون له تسلط على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم أكمل الناس إيماناً، وأبعدهم عن طاعة الشيطان، وهم الذين عصمهم الله من ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي: إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) (١).

فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن مع كل إنسان قريناً من الملائكة وقريناً من الجن، فالقرين من الملائكة يأمر بالخير، والقرين من الجن يأمر بالشر ولكن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام من الجن أسلم إسلاماً حقيقياً كما عليه أكثر العلماء، فلا يأمره إلا بخير، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من فتنة الشيطان وتسلطه، لأن تسليط الشيطان عليهم يناقض ما تقتضيه النبوة من كونهم قدوة للعالمين وأئمة للمهتدين.

وأما ما ورد خطاباً لنبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: ٦٨]. فإن هذا النسيان الذي حصل بسبب إنساء الشيطان له لا يعتبر من قبيل التسلط على الناس واستحواذه عليه بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن أنبيائه وعن عباده المخلصين .. ، وقد ينسي الإنسان خيراً باشتغال فكره بخير آخر (٢).

وقد قيل: إن هذا الخطاب وإن كان ظاهراً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته، لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان. وقيل: لا وجه لهذا، فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) (٣).

وهذا النسيان كما تقدم ليس مما يكون به للشيطان سلطان.

وكذلك ما ورد من إنساء الشيطان للنبي يوسف عليه السلام وهو في السجن في قوله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: ٤٢]. فأنساه الشيطان ذكر ربه، إذ أمر الناجي من صاحبيه في السجن بذكره عند الملك ابتغاء الفرج من عنده على أحد القولين، فكان نتيجة ذلك أن لبث في السجن بضع سنين، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله عن يوسف: (ولولا الكلمة لما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل) (٤).

فنسيان يوسف عليه السلام ذكر ربه في السجن ليس من جنس تسلط الشيطان على أنبيائه، لأنهم معصومون من ذلك، وما يقع منهم من نسيان لا يستمرون عليه، بل يتذكرون ويستغفرون كما في قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [٢٤: ص].

وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [٣٤: ص].

وأما وقوع النسيان من الأنبياء عليهم السلام بغير وسوسة من الشيطان فلا وجه للخلاف في جوازه، قال تعالى لخاتم رسله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: ٢٤].


(١) رواه مسلم (٢٨١٤).
(٢) ((تفسير المنار)) (٧/ ٥٠٨).
(٣) رواه البخاري (٤٠١)، ومسلم (٥٧٢). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(٤) رواه الطبراني (١١/ ٢٤٩) (١١٦٤٠). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (٣٩٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>