للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم، (إلا واحدة) أن الحق واحد لا يتعدد. وهذه المسألة موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى بأن كل مجتهد مصيب، وهم الذين يطلق عليهم اسم (المصوبة)، ومنهم من يرى بأن الحق واحد لا يتعدد، وهم الذين يطلق عليهم اسم (المخطئة) ولاشك أن الأدلة مع الفريق الثاني، ويعتبر حديث الافتراق من الأدلة القوية التي تؤيد ما ذهبوا إليه.

قال الشاطبي: (إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا واحدة) قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرق أيضاً لم يقل (إلا واحدة) ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق، لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩]. إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة) (١).

الحديث الثاني:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: ((كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على الحديث السابق: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق، لأن كلا القارئين كان حسناً فيما قرأه، وعلل ذلك: بأن من كان قلنا اختلفوا فهلكوا) (٢).

إلى أن قال: (واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة، الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر) (٣).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، أن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، فعن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف في وجهه الغضب، فقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب)).

وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو: أن نفرا كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: ((أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم. أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ههنا في شيء. انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه)).

وتوجد أحاديث أخرى كثيرة في ذم الفرقة والتحذير منها، وفيما يلي أسرد بعضاً منها إجمالاً:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب ابن آدم كذئب الغنم يأتي إليها فيأخذ الشاذة والقاصية والناحية)).

وعن زكريا بن سلام يحدث عن أبيه عن رجل قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ((يا أيها الناس عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ثلاث مرات)). قالها إسحاق (أحد الرواة)).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه وإن أخطأ غفر الله له، ومن عمل لله في الفرقة فإن أصاب لم يقبل الله منه وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)).


(١) ((الاعتصام)) (٢/ ٢٤٩).
(٢) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (١/ ١٢٣)، ط المحققة.
(٣) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (١/ ١٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>