للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صاحب البدعة تُنْزَع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، فإنَّ الله تعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً، ولا من مصالحنا الأُخروية قليلاً ولا كثيراً، حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم لزوال الريب والالتباس، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة، والعطايا الجزيلة، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: ١٠٣]، بعد قوله: اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] فأشعرَ أنَّ الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً، وأنَّ ما سوى ذلك تفرقة، لقوله: وَلاَ تَفَرَّقُوا والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة، لأنَّه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام.

الماشي إليه والموقِّر له مُعين على هدم الإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) الحديث (١)

فإنَّ الإيواء بجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر لأنَّ المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته والشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه.

وأيضاً فإنَّ توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم:

إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنَّه أفضل الناس، وأنَّ ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السُّنَّة على سنتهم.

والثانية: أنَّه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المُحرِّض له على إنشاء الابتداع في كلِّ شيءٍ. فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه، وعلى ذلك دلَّ النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار، لأنَّ الباطل إذا عُمِل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس، لأنَّ المحلَّ الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين.

صاحبها ملعون على لسان الشريعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (٢) وعد من الإحداث، الاستنان بسنة سوء لم تكن.

يزداد من الله بعداً. لما رُوِيَ عن الحسن أنَّه قال: صاحب البدعة ما يزداد لله اجتهاداً، صياماً وصلاة، إلا ازداد من الله بعداً.

وعن أيوب السِّخْتِياني قال: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً) (٣).

ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج ((يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة)) (٤) فبين أوَّلاً اجتهادهم ثم بيَّن آخراً بُعْدهُمْ من الله تعالى.

البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام. لأنَّها تقتضي التفرق شِيَعاً.


(١) [١٥٠١٨])) رواه البخاري (١٨٧٠) ومسلم (١٣٧٠) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٢) [١٥٠١٩])) رواه البخاري (١٨٧٠) ومسلم (١٣٧٠) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٣) [١٥٠٢٠])) رواه ابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (ص: ١٦).
(٤) [١٥٠٢١])) رواه البخاري (٣٦١٠)، ومسلم (١٠٦٤). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>