للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: ١٠٣]، وقوله: إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ [الأنعام: ١٥٩]، وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى.

وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ فساد ذات البيْنِ هي الحالقة وأنَّها تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع.

وأوَّل شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم وَيَدَعُون الكفار. ثم يليهم كل من كان له صَوْلة منهم بقرب الملوك فإنَّهم تناولوا أهل السُّنَّةِ بكل نَكالٍ وعذاب وقتل.

ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإنَّ من شأْنهم أن يُثَبِّطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم.

وأيضاً فإنَّ أهل السُّنَّةِ مأْمورون بعداوة أهل البدع وقد حذَّر العلماءُ من مصاحبتهم ومجالستهم، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء. لكن الدرك فيها على من تسبب في الخروج عن الجماعة مما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً. كيف ونحن مأْمورون بمعاداتهم وهم مأْمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟

وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لما في الصحيح قال: ((أوَّل من يُكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنَّه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ـ فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم)) الحديث (١)، ففيه أنَّه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر من أوَّل الحديث أنَّ ذلك الارتداد لم يكن ارتداد كفرٍ لقوله: ((وإنَّه سيؤتى برجال من أمتي)) ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نُسبوا إلى أُمته، ولأنَّه عليه السلام أتى بالآية وفيها: وَإنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٨]، ولو علم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها، لأنَّ من مات على الكفر لا غفران له البتة، وإنَّما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عملُه عن الإسلام لقول الله تعالى: إنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: ١١٦].

وأمَّا أنَّ على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة؛ فلقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: ٢٥] ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: ((من سَنَّ سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها)) الحديث (٢).

وأمَّا أنَّ صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله حَجَرَ التوبة على كلِّ صاحب بدعة)) (٣)


(١) [١٥٠٢٢])) رواه البخاري (٦٥٢٦) ومسلم (٢٨٦٠) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) [١٥٠٢٣])) رواه مسلم (١٠١٧) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه.
(٣) [١٥٠٢٤])) رواه أبو الشيخ في ((طبقات المحدثين بأصبهان)) (٣/ ٦٠٩)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (٣٧)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (٤/ ٢٨١) (٤٢٠٢)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٧/ ٥٩)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (٦/ ٧٣) (٢٠٥٥). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي (١٠/ ١٩٢): رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة، وحسن إسناده السفاريني في ((لوائح الأنوار السنية)) (١/ ٢٠٣)، وصححه الألباني في كتاب ((السنة لابن أبي عاصم)).

<<  <  ج: ص:  >  >>