للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن القيم: (كلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر: ٢٨] أي العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية)) (١)) (٢).

وفي قول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ يقول البحر ابن عباس في معنى الآية: (إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني) (٣).

وقال ابن كثير: (إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر) (٤).

وكيف لا يخشع القلب ويهاب إذا امتلأ بالحب والتعظيم والمعرفة بالخالق العظيم، فإن من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله وحده (٥).

رابعاً: اليقين والسكينة والطمأنينة.

من عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق من معرفة خالقه جل وعلا، وعظمه حق تعظيمه فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين.

قال ابن القيم: (فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده) (٦).

وباليقين مع الصبر تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: ٢٤].

وتلك المنزلة العالية الرفيعة هي روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وغم وامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضى به وشكرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه، قال أبو بكر الدقاق: (اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله، وبالعقل عقل عن الله).

وإذا تيقن القلب نزلت السكينة، وهي الطمأنينة والسكون الذي ينزل في القلب عند اشتداد المخاوف والبلاء، فيزداد ذلك القلب إيماناً وثباتا، ويكسو الجوارح خشوعا ووقارا، ويضفي على اللسان حكمة وصوابا (٧).

خامساً: الرضا.

والرضا من ثمرات المعرفة بالله، فمن عرف الله بعدله وحكمه وحكمته ولطفه أثمر ذلك في قلبه الرضا بحكم الله وقدره في شرعه وكونه فلا يتعرض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدره، بل تراه: (قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل:

عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب (٨)


(١) رواه البخاري (٦١٠١)، ومسلم (٢٣٥٦). بلفظ: ((إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢) ((روضة المحبين)) (ص: ٤٠٦).
(٣) ((زاد المسير)) (٦/ ٤٨٦).
(٤) ((تفسير القرآن العظيم)) (٣/ ٥٦١).
(٥) لاحظ ((روضة المحبين)) (ص: ٤٠٦).
(٦) ((مدارج السالكين)) (٢/ ٤١٩ - ٤٢٠) وانظر لليقين منه (١/ ٤١٣ وما بعدها).
(٧) انظر: ((مدارج السالكين)) (٣٢/ ٥٢٥ - ٥٢٧).
(٨) ((صيد الخاطر)) (ص: ٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>