للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم، فإنهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأن ما بنى وبقي فقد بني بطالع سعيد، فحاروا في طالع الكعبة إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة، وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول [الفيل: ١ - ٥].

قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجاً بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم اهـ (١).

٣ - والله سبحانه وحده هو الذي يحفظ الإنسان من الشرور والآفات والمهالك، ويحفظه من عقابه وعذابه وسخطه، إن هو حفظ حدود الله واجتنب محارمه، فبتقوى الله وخوفه يحفظ الإنسان، وبقدر ذلك يكون الحفظ والكلاءة، قال تعالى فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ [النساء: ٣٤]، فالآية تدل على ذلك، فلأنهن صالحات حافظات لمغيب أزواجهن – من عرض ومال وولد – حفظهن الله سبحانه، وأعانهن وسددهن على ذلك.

فبحفظهن الله – أي أمره ودينه – حفظهن الله. وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ((يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ... )) (٢).

قال ابن رجب رحمه الله: يعني احفظ حدود الله، وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه، فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمات جميعاً اهـ (٣).

وقد مدح الله سبحانه عباده الذين يحفظون حقوقه وحدوده فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: ١١٣].

وقال هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: ٣٢ - ٣٣].

٤ - ومن أعظم ما يجب على المسلم حفظه من حقوق الله هو التوحيد، أن يعبده ولا يشرك به شيئا، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديكن قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) (٤).


(١) ((النبوات)) (ص: ١٦٠ - ١٦١).
(٢) رواه الترمذي (٢٥١٦)، وأحمد (١/ ٢٩٣) (٢٦٦٩)، والحاكم (٣/ ٦٢٤). قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا.
(٣) ((نور الاقتباس)) (ص: ٣٤).
(٤) رواه البخاري (٥٩٦٧)، ومسلم (٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>