للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعن المعرور بن سويد رحمه الله قال: (خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بِيَعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) (١).

قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذه القصة: (لما كان النبي لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد، الذي هو عمل القلب وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل) (٢) اهـ.

وورد في قصة أخرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقطعت.

هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفعله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (٣).

وقد قال ابن وضاح القرطبي رحمه الله بعد أن روى هاتين القصتين: (وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأحداً) (٤).

ثم قال: (وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس، فصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان).

ثم قال أخيراً: (فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعد من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى) (٥) الخ.

تلك نماذج لنهي السلف الصالح رحمهم بأقوالهم وأفعالهم عن هذا التبرك المبتدع.

الوجه الرابع: أن منع هذا التبرك من باب سد الذريعة، ويمكن إيضاح ذلك من عدة وجوه:

أحدها: أن النهي عن هذا الفعل سد لذريعة الشرك والفتنة (٦)، فهو وسيلة إلى الفتنة بتلك المواضع، وتعظيمها، وربما أفضى ذلك إلى جعلها معابد (٧).

الثاني: أن ذلك الفعل يشبه الصلاة عند المقابر (٨)، إذ هو ذريعة إلى اتخاذ تلك الآثار مساجد.

والنصوص الشرعية تحرم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ... مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم (٩)، فما بالك بالمواضع الأخرى لهم.

الثالث: أن هذا الفعل ذريعة إلى التشبه بأهل الكتاب في أفعالهم، كما حذر عمر رضي الله عنه.


(١) رواه عبد الرزاق ٢/ ١١٨ (٢٧٣٤).
(٢) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (١/ ٢٨١).
(٣) رواه أحمد٢/ ٥٣، والترمذي (٣٦٨٢) وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٥٩٨٨): حسن أو أعلى.
(٤) المقصود إتيان قبور شهداء أحد لزيارتهم والسلام عليهم، وفي كتاب ((الاعتصام)) للشاطبي (١/ ٣٤٧) هكذا (ما عدا قباء وحده) نقلاً عن ابن وضاح.
(٥) ((البدع والنهي عنها)) لابن وضاح القرطبي (ص: ٤٣).
(٦) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (١/ ٣٦٨).
(٧) من كتاب ((التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية)) لعبد العزيز بن ناصر الرشيد (ص: ٣٤٠)، وانظر كتاب ((هذه مفاهيمنا)) لصالح آل الشيخ (ص: ٢١٢).
(٨) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (٢/ ٧٤٥).
(٩) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (٥/ ٢٦٢) بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>