للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الخامس: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، والله أعلم، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها النبي، أو جلس عليها، أو طريق مر بها تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعًا، فانتفى الملزوم إذاً (١).

قال الشيخ صديق حسن رحمه الله: (قالوا: المشي في أرض مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر السيئات، خصوصاً مع النية الصالحة ... وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعاً آثاره الشريفة، قلت: وذلك يحتاج إلى سند، لأن المكفر إنما هو اتباع هديه وسنته ظاهراً وباطناً دون تتبع آثاره الأرضية فقط، فتدبر) (٢).

وبهذه الأوجه وغيرها يستدل على عدم مشروعية التبرك المذكور. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: ٣٣٩

وما ورد عن ابن عمر ونزوله في مواضع نزول النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مردود بفعل سائر الصحابة

وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة. ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله. فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها.

... أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرا قصيراً أو طويلا مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، مثل ما كان مبنياً على نعله، ومثل ما في جبل قاسيون، وجبل الفتح، وجبل طور زيتا الذي ببيت المقدس، ونحو هذه البقاع، فهذا مما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة.

ارتياد جبل حراء والغار ونحوه من البدع التي لم تشرع ولم يفعلها الصحابة والسلف الصالح.

فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره:

وراق ليرقى في حراء ونازل

وقد ثبت في (الصحيح) ((عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجأه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه الملك، فقال له: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: مرتين أو ثلاثا- ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ١ - ٥] , فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره)) (٣) الحديث بطوله.


(١) من كتاب ((هذه مفاهيمنا)) (ص: ٢١١)، وانظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (٥/ ٢٦٣).
(٢) من كتاب ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق)) لصديق حسن خان (ص: ٢١).
(٣) رواه البخاري (٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>