للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وامتدت شفقته صلى الله عليه وسلم؛ لتشمل إخوانه الذين يأتون من بعده، ولم يروه؛ فبذل لهم النصح، ودلهم على ما فيه نجاتهم، وحسن عاقبتهم. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (١) ... الحديث. فمن ثم أمسك المسلمون عن استفزاز واستثارة الترك، فسلموا من غائلتهم, إلى أن خالفوا التوجيه النبوي، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى-: (وقد قتل جنكيزخان من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من (خوارزم شاه)، فإنه لما أرسل جنكيز خان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به فأنكره؟ وقال فيما أرسل إليه: (من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون؛ لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره، وتقتص من نائبك)، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (٢) , فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأخذ بلاده، فكان بقدر الله - تعالى- ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها، ولا أبشع) (٣) , فهنا نرى أن المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك الترك جاءت العاقبة عنيفة مريرة؛ حيث اجتاح التتار ديار الإسلام في كارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ (٤) , وفي أكثر من موضع ذكر الحافظ ابن كثير وقائع القتال بين المسلمين والتتار، وبيَّن أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم، ولو كانت الرماح تنالهم؛ ومثال ذلك ما ذكره في حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة: (وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار - لعنهم الله - فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة، وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم؛ ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (٥) (٦).

خامساً: فتح باب الأمل، والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إذا ادلهمت الخطوب، وضاقت الصدور، مما يعطي المسلمين طاقة يصارعون بها ما يسميه المتخاذلون (الأمر الواقع) , ليصبح عزهم ومجدهم هو الأمر الواقع؛ وذلك بناء على البشارات النبوية بالتمكين للدين، وظهوره على الدين كله, ولوكره الكافرون.


(١) رواه أبو داود (٤٣٠٢)، والنسائي (٦/ ٤٣)، والبيهقي (٩/ ١٧٦) (١٨٣٧٨). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٥/ ١١٠)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(٢) رواه أبو داود (٤٣٠٢)، والنسائي (٦/ ٤٣)، والبيهقي (٩/ ١٧٦) (١٨٣٧٨). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٥/ ١١٠)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(٣) ((البداية والنهاية)) (١٣/ ١١٩)
(٤) ((البداية والنهاية)) (١٣/ ٨٦ - ٩١)
(٥) رواه أبو داود (٤٣٠٢)، والنسائي (٦/ ٤٣)، والبيهقي (٩/ ١٧٦) (١٨٣٧٨). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٥/ ١١٠)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(٦) ((البداية والنهاية)) (١٣/ ١٦٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>