للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم له أجزاء وأبعاض وشعب والناس متفاوتون في القيام بها، فهو يزيد بزيادتها وينقص بنقصها، فإماطة الأذى عن الطريق إيمان كما في حديث الشعب (١)، وترك إماطته نقص في كمال الإيمان المستحب ولا يقال إن فعله هذا كفر لتركه شيئاً من أمور الإيمان، ولا يفهم هذا منه.

ثم لو فهم هذا ممن انحرفت فطرهم وسادت فيهم البدع والخرافات، فلا يليق أن ينسب إليه رحمه الله أنه ترك ما جاء الدليل مصرحاً به حتى لا يفهم كلامه على غير مراده، فلو كان ذلك كذلك وطرد هذا الأمر على بقية أمور الاعتقاد لضاع الدين.

فهل يترك القول بأن الله سميع بصير عليم خبير وأنه مستو على عرشه وأن له يدا وقدما وغير ذلك من أوصاف كماله سبحانه وتعالى حتى لا يقال مجسمة؟!

أو يترك العناية بالأحاديث وتتبع الآثار والتنقيب عنها وفهمها حتى لا يقال حشوية؟!

أو يترك الاستثناء في الإيمان بأن يقال: أنا مؤمن أو أنا مؤمن حقاً حتى لا يقال شكاكا؟! وغير ذلك مما يطول ذكره.

وهل لا نروي قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم كذا في أحاديث كثيرة حتى لا يفهم من ذلك أنا نرى ما يراه الخوارج وغيرهم من خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان؟!

ولقد فهم المبتدعة من كلام الله في كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه ما يوافق مذاهبهم، وليس العيب في النص تنزه كلام الله ورسوله عن ذلك، بل العيب في فهمهم على حد قول الشاعر:

وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم

ولم يمنع فهمهم من نص شرعي موافقة مذهبهم أن يتلى النص ويبلغ ويتداول.

وعليه فـ ... ليس من اللائق أبداً أن يؤول قول الإمام على ذلك وأن يفهم من قوله هذا الفهم الفاسد، ولو كان رحمه الله يخشى ما فهمه هؤلاء لقال بما جاء به النص: (الإيمان يزيد وينقص) ثم بين للسائل أنه لا يلزم من القول بنقصه أنه يكفر، إذ لا تلازم بينهما، أو نحو هذا مما يبين السبيل ويزيل الإشكال إن وجد. والله أعلم.

وعلى كلٍّ فالإمام رحمه الله نص على أنه من ترك القول بالنقص لعدم ورود النص، فلا حاجة بنا بعد إلى مثل هذه التعليلات.

وأيضاً فالإمام ثبت عنه القول بزيادة الإيمان ونقصانه وترك قوله الأول، بل إن قوله الأخير هو المعروف عنه عند أهل العلم كما قال أحمد بن القاسم: تذاكرنا من قال: الإيمان يزيد وينقص فعدّ الإمام أحمد غير واحد ثم قال: ومالك بن أنس يقول: يزيد وينقص، فقلت له إن مالكا يحكون عنه أنه قال: يزيد ولا ينقص. فقال: بلى قد روي عنه يزيد وينقص كان ابن نافع يحكيه عن مالك، فقلت له: ابن نافع يحكيه عن مالك؟ قال: نعم (٢).

والروايات الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، ... منها:

أولاً – رواية عبدالرزاق:

قال عبدالرزاق: (سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (٣).

وقال: (لقيت اثنين وستين شيخا منهم معمر ... ومالك بن أنس ... كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (٤).

ثانيا – رواية إسحاق بن محمد الفروي:

قال: (كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك يا أبا عبدالله إن لنا رأيا نعرضه عليك فإن رأيته غير ذلك كففنا عنه، قال: وما هو؟ قال: يا أبا عبدالله لا نكفر أحدا بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا.


(١) رواه البخاري (٩)، ومسلم (١٦٢). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩١) (١٠٤٣) بتصرف.
(٣) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: ١١٣)، وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: ٣٤).
(٤) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (٥/ ١٠٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>