للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الحسن البصري مبينا معنى تدبر القرآن ( .. أما والله ما هو يحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء) (١).

قلت: يرحم الله الحسن، وما عساه قائل لو رأى قراء زماننا هذا، الذين فتنوا بالألحان وإقامة الحروف وتزويقها، مع إهمال الحدود وتضييعها، بل وانصرفت أسماع الناس معهم عند سماع القرآن إلى إقامة الحروف وتلحينها، مع إهمال الاتصالات والتدبر لكلام الله، وبكل حال لا اعتراض على تجويد القرآن وترتيله والتغني به وتحسين أدائه، وإنما الاعتراض على التكلف في إقامة الحروف والتنطع في ذلك، دون اهتمام أو مبالاة بإقامة الأوامر التي أنزل من أجلها القرآن، حتى إنك لا ترى في كثير من هؤلاء الورع القائم بحدود الله، بل ولا ترى فيهم القيام بالقرآن لا في خلق ولا في عمل.

فتجد القارئ منهم الحافظ للقرآن المحسن في إقامة حروفه يحلق لحيته أو يطيل مئزره، بل ويهمل الصلاة إما كلية أو مع الجماعة، إلى غير ذلك من المنكرات حتى إن أحد هؤلاء والله المستعان افتتح بآيات من القرآن الكريم حفلا غنائيا لمرأة فاجرة، فقرأ بين يدي أغنيتها آيات من القرآن الكريم، جل كلام ربنا أن يدنسه مثل هؤلاء، وحسبي أن أقول مثل ما قاله الحسن رحمه الله: متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء.

وقال ابن العربي واصفاً قراء زمانه بانشغالهم بإقامة حروف القرآن مع إهمال حدوده، واتخاذهم لهذا العمل صناعة مع أن القرآن إنما أنزل ليعمل به قال: ( .. ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة، رفرفوا عليها وناضلوا عنها، وأفنوا أعمارهم - من غير حاجة إليهم - فيها، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقام القدح لفظاً، وكسر معانيه كسر الإناء، فلم يلتئم عليه منها معنى) (٢).

فينبغي للمسلم قبل أن يقرأ القرآن أن يتعلم كيفية الاستفادة منه حتى يتم له الانتفاع به وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا قاعدة جليلة القدر عظيمة النفع وهي: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه) (٣).

قلت: فمن طبق هذه القاعدة وسار على هذا المنهج عند تلاوته للقرآن أو سماعه إياه ظفر بالعلم والعمل معا، وزاد إيمانه وثبت ثبوت الجبال الشوامخ والله المسؤول أن يوفقنا لذلك، ولكل خير.

ثم إن التفكر والتدبر في آيات الله على نوعين: (تفكر فيه ليقع على مراد الرب منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه، فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني، الأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة) (٤) قاله ابن القيم.


(١) رواه عبدالرزاق في مصنفه (٣/ ٣٦٣)، وابن المبارك في ((الزهد)) (ص: ٢٧٤)، والآجري في ((أخلاق حملة القرآن)) (ص: ٤١) والمروزي في ((قيام الليل)) (ص: ٧٦).
(٢) ((العواصم من القواصم)) (٢/ ٤٨٦) ضمن كتاب ((آراء أبي بكر بن العربي الكلامية)) لعمار الطالبي. وانظر: ما كتبه الذهبي عن أمثال هؤلاء القراء في كتابه ((زغل العلم)) (ص: ٢٥).
(٣) ((الفوائد)) (ص: ٥) وانظر: ((الفتاوى)) لابن تيمية (١٦/ ٤٨) و (٧/ ٢٣٦).
(٤) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: ٢٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>