للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: والكلام الذي ذكرته هنا هو عن التفكر في آيات الله المسموعة، أما التفكر في آياته المرئية المشهودة فسيأتي الكلام عليه قريباً إن شاء الله. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص١٧٧

المسألة الثانية: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى

فإن معرفة أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه، لمن أعظم أبواب العلم التي يحصل بها زيادة الإيمان، والاشتغال بمعرفتها وفهمها والبحث التام عنها مشتمل على فوائد كثيرة وعظيمة، منها:

١ - أن علم توحيد الأسماء والصفات أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.

٢ - أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه في فهم معانيها.

٣ - أن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته.

٤ - أن أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان مجرد قوله: آمنت بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفةً بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى.

٥ - أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة، يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة (١).

ومن هذه الفوائد أن معرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والخضوع، فلكل صفة عبودية خاصة هي من مقتضياتها، وموجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح.

وبيان ذلك أن العبد إذا علم بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فإن ذلك يُثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.

وإذا علم بأن الله سميع بصير عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن هذا يثمر له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه.

وإذا علم بأن الله غني كريم بر رحيم واسع الإحسان فإن هذا يوجب له قوة الرجاء، والرجاء يثمر أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

وإذا علم بكمال الله وجماله أوجب له هذا محبة خاصة وشوقاً عظيماً إلى لقاء الله، وهذا يثمر أنواعاً كثيرة من العبادة.

وبهذا يعلم أن العبودية كلها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصفات (٢).


(١) انظر: ((تفسير ابن سعدي)) (١/ ٢٤) وخلاصة تفسيره (ص: ١٥).
(٢) ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (ص: ٤٢٤) وانظر نحوه بأوسع منه في ((الفوائد)) له (ص: ١٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>