للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعلوم أن من كان مأمونا على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه. وفي حديث عبد الله بن عبيد بن عمير أيضا عن أبيه عن جده أنه ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام. قيل: فما الإيمان؟ قال: السماحة والصبر. قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاما؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانا؟ قال: أحسنهم خلقا. قيل فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله عليه. قال: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد مقل. قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: أن تجاهد بمالك ونفسك؛ فيعقر جوادك ويراق دمك. قال أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر)) (١). ومعلوم أن هذا كله مراتب بعضها فوق بعض؛ وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمنا وكذلك المجاهد ولهذا قال: ((الإيمان: السماحة والصبر)). وقال في الإسلام: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)). والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلقا ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال: (أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقال: أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا. ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حَسِن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال: بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق. وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (٢). وقوله لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)) (٣). ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (٤). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس ... فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان؛ صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) (٥) فجعل (الدين) هو الإسلام والإيمان والإحسان. فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة لكن هو درجات ثلاث: (مسلم) ثم (مؤمن) ثم (محسن) كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: ٣٢] والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب؛ لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن؛ فإنه معرض للوعيد ... وأما (الإحسان) فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. (والإيمان) أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام.


(١) ذكره ابن تيمية في ((الإيمان)) (ص٧) وقال الألباني: صحيح.
(٢) رواه البخاري (٩)، ومسلم (٣٥) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) رواه البخاري (٥٣) وهذا لفظه، ومسلم (١٧). من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٥) رواه البخاري (٥٠)، ومسلم (٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>