للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا له ارتباط بمسألة قيام الحجة وعدمه، حيث إن الذي يجب اعتقاده في هذا الباب هو أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسل، كما أنه ما من أحد أدخل النار إلا ويجب اعتقاد أن حجة الله قد قامت عليه، وهذا مقتضى عدل الله تعالى، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٦]. وهذا ما يقطع به في جملة الخلق.

أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أو لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ لأن التعيين موكول إلى علم الله وحكمه (١). ولهذا فإن أهل الفترة في أحكام الدنيا كفار، أما في الآخرة، فأمرهم إلى الله وهو أعلم بحالهم.

٣ - أن عقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة:

فقد تقام الحدود على أشخاص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، من غير الحكم عليهم بالكفر، بل يصلى عليهم ويستغفر لهم.

وقد يكون هؤلاء الأشخاص غير معذبين في الآخرة، ويدخل في هذا الباب قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة، ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على ماعز بن مالك وصلى عليه (٢)، ونهى عن شتمه. كما أقامه على الغامدية، فنهى خالد بن الوليد عن سبها، وقال: ((لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. ثم صلى عليها)) (٣).

ومن هذا الباب رأي من رأى من السلف قتل الدعاة إلى البدعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (ولهذا كان أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس؛ لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هل هو كافر أو ليس بكافر) (٤). فظهر أن التوقف في أمر الآخرة لا يمنع من عقاب الدنيا.

٤ - الفرق بين الحكم بكفر المعين والحكم بإسلامه:

فإن إسلام المعين يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، ثم يلزم بعد ذلك بلوازمه، وهو إسلام حكمي قد يكون المعين معه منافقاً في الباطن؛ أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، وإنما هو حكم على الظاهر والباطن معا، بحيث لا يصح لنا أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة (٥).

وإذا عرف هذا، فإن تكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم – بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار – لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية عليه التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت مقالاتهم، لا ريب أنها كفر.


(١) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: ٦٧٩).
(٢) الحديث رواه البخاري (٦٨٢٠) بلفظ: ((أن رجلا من أسلم ... فأمر به فرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وصلى عليه)). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. سئل أبو عبدالله هل قوله (فصلى عليه) يصح أم لا؟ قال رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا. وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (٨/ ٢١٨): (وصلى عليه) خطأ. وقال محمد بن عبدالهادي في ((المحرر)) (١٩٣): هكذا رواه البخاري من رواية معمر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن جابر قال: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: (فصلى عليه). ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وقالوا: (ولم يصل عليه) وصححه الترمذي وهو الصواب. والصحيح: عن معمر كرواية غيره، عن الزهري.
(٣) رواه مسلم (١٦٩٥). من حديث بريدة رضي الله عنه.
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٥٠٠)، وانظر: (١٢/ ٥٢٤).
(٥) انظر: ((رسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة)) (ص: ٢٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>