للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أن الحكم بالكفر الحقيقي على شخص معين يتعلق بأحكام الثواب والعقاب في الآخرة أكثر من تعلقه بأحكام الدنيا، وقد عُلم أن أحكام الآخرة مما لا سبيل لنا لمعرفتها على التفصيل فيما يخص أحكام المعينين، لهذا لزم التحري الشديد والتريث والتبين بعلم.

٥ - الشخص الذي قد يعذبه الله في النار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ لكونه له سيئات عذب من أجلها، وحسنات فدخل بها الجنة، هل يطلق عليه اسم مؤمن؟

فيه تفصيل:

١ - بالنظر إلى أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، فهو مؤمن، وكذلك دخوله في خطاب المؤمنين.

٢ - وبالنظر إلى حكمه في الآخرة، فيقال إن هذا النوع ليس من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه (١).

من خلال استعراض موضوع أحكام الدنيا وأحكام الثواب والعقاب في الآخرة، فإنه بات واضحاً أننا ونحن نتحدث عن أحكام عصاة الموحدين، سواء كانت معاصيهم تلك من المعاصي الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية.

لقد بات واضحاً ضرورة التفريق بين هذين النوعين من الأحكام حتى يكون الحكم عدلاً وصواباً، أي موافقاً للكتاب والسنة. وهذا من مميزات منهج أهل السنة؛ إذا التفصيل هو منهجهم غالباً في هذه المسائل الكبيرة من الدين.

فالفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة هو الذي يتطابق مع حقيقة المنهج النبوي، الذي رأينا من خلال العرض السابق نماذج منه في التعامل مع الوقائع.

ومن ثمرات هذا المبحث التي عرضنا لها سابقاً، نتبين أهمية التفريق بين هذه الأحكام؛ إذ فيه من المحافظة على عصمة دم الموحدين من هذه الأمة وعدم التسرع في الحكم عليهم بالكفر، وذلك بالنظر في الوقائع بالدقة اللازمة التي تتطلبها خطورة الحكم بالكفر على شخص ما؛ لأن لذلك الحكم آثاراً تستتبعه، كسقوط عصمة الدم والمال والبراءة منه ...

أما الذين خالفوا هذا المنهج وجعلوا أحكام الدنيا مستلزمة لأحكام الآخرة مطلقاً، فقد وقعوا في التخبط الشنيع، فاستحلوا دماء معصومة، وحكموا على أخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالكفر، وشهدوا عليهم بالنار في الآخرة.

ويأتي في مقدمة هؤلاء الغلاة طائفة الخوارج التي جعلت الفعل الظاهر دليلاً على القصد الباطن، وجعلت الإيمان حقيقة مركبة تزول بزوال أحد عناصرها، فكفروا بمطلق المعاصي. ثم تطاولوا على مقام الألوهية، فحكموا على الموحدين بالنيران، ومنعوا وقوع الشفاعة في عصاة أهل القبلة المعذبين، ومن ثم منعوا خروج من دخل النار من النار، وقالوا بالمكث الأبدي في النار حتى للموحدين. وهذه مخالفة صريحة للنصوص النبوية، بل هي تكذيب لها وإعراض عنها.

ولهذا سرعان ما يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهو جزاء وفاق على غلوهم وإعراضهم عن هدي الكتاب والسنة.

أما خيار الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد تمسكوا بالأمر الأول، وفروا من المحدثات، بل وحاربوها حتى حفظ لنا الدين على منهاج النبوة. فقد تعاملوا مع المنافقين – وهم من هم في الخصومة والعداء – على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اعتبار ظاهرهم، وترك سرائرهم إلى الله عز وجل. ولقد كانوا أغير الناس على دين الله، تدفعهم غيرتهم إلى تجاوز حدود النصوص في التعامل مع الأحداث حتى في أشد الظروف.


(١) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٣٥٤ - ٣٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>