للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال شيخ الإسلام: (والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر. يبين ذلك قوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل:١٠٦ - ١٠٧]، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة ثم قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ [النحل:١٠٧] وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا. والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران. واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق) (١).

وقد اشتبه على بعضهم المراد من قوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:١٠٦] فظن أن هذا شرط في التكفير، وأنه يجب التحقق من قصد المتكلم هل أراد الكفر أم أراد المال والمتاع. وليس في الآية ما يدل على ما ذهبوا إليه، بل هذا قيد في تكفير المكره خاصة، فلا يكفر حال الإكراه إلا أن ينشرح صدره بالكفر. وكل من تكلم بالكفر طوعا فقد شرح صدره به.

وقد بين شيخ الإسلام هذه المسألة بيانا شافيا في مواضع من كتبه، قال: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا، ولا يجوز أن يُقال إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام. قال الله سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: ١٠٦] , ومعلوم أنه لم يُرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يُكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أُكره. ولم يُرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعُلم أنه أراد: من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أُكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا، فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره، فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وقال تعالى في حق المستهزئين: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: ٦٦] , فبيّن أنهم كفار بالقول، مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع، والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعلٍ فيه استهانةٌ واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم) (٢).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٥٩).
(٢) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>