للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال: (فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:١٠٦] قيل: وهذا موافق لأولها؛ فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره. وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا فقد شرح بها صدرا، وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:٦٤ - ٦٦] فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب، وبيّن أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (١).

وقال: (وأيضا: فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع. فعُلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه. وقوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:١٠٦] أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)) (٢).

والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به) (٣).

فتبين بهذا أن انشراح الصدر بالكفر، في حق من تكلم به طائعا: وصف لازم، لا شرط أو قيد في التكفير.

ومن فقه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أنه ختم رسالته الجامعة (كشف الشبهات) بذكر آيتي النحل والتوبة، قال: (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:

أولاهما: قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:٦٦] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزاح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مالٍ، أو جاهٍ أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٢٢٠).
(٢) رواه مسلم (١١٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بلفظ: (أو يمسي مؤمنا) والذي في الفتاوى: (ويمسي مؤمنا).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>