للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعذر بالجهل كما هو معلوم له حالات، فهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، والأشخاص يختلفون فمنهم من قامت عليه الحجة، ومنهم من لم تقم عليه باعتباره مثلاً حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وكذلك الجهل يختلف إن كان جهلاً بما هو معلوم من الدين بالضرورة أو ما دون ذلك نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – ١/ ٢٢٥

إنَّ من أظهر الأدلة في اعتبار الجهل عذراً، ما ثبت في (الصحيح) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم فغفر الله له)) (١)

ويقول ابن قتيبة: عن هذا الحديث: (وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذري في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته) (٢).

ويقول ابن تيمية: (وكنت دائماً أذكر هذا الحديث .. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك) (٣).

ويفصل ابن تيمية ذلك بقوله: (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك. وهذان أصلان عظيمان، أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح) (٤). ويضيف ابن تيمية في بيان هذا الحديث قائلاً: (فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له، ومثل هذا كثير في المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأوّلين، ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة) (٥).


(١) الحديث رواه البخاري (٣٤٧٨) ومسلم (٢٧٥٦) بلفظ مقارب.
(٢) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص ١٣٦) ت: محمد الأصفر.
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٣/ ٢٣١)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (٢٨/ ٥٠١، ١١/ ٤٠٩، ٤١٠) وانظر ((الفصل)) لابن حزم (٣/ ٢٩٦).
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٤٩١) وانظر ((السبعينية)) ((بغية المرتاد)) (ص ٣٤٢).
(٥) ((الصفدية)) (١/ ٢٣٣) , وانظر: ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٣٨، ٣٣٩) ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص ٤٣٦) وانظر ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (٣/ ١١) ((الفتاوى)) ((ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين)) (٣/ ٦٠٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>