للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحافظ ابن حجر: وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيراً من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي، واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة؛ لأنهم لم يكتموا مثل: ((أنت عندي بمنزلة هارون من موسى)) (١)، وغيرها من الظواهر التي قد يمسك بها من يدعي إمامته (٢).

ويقول الشاطبي: إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.

ويتبين ذلك من وجهتين:

أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:٩]، وقوله: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:١]

والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفّر دواعي الأمة للذّبِّ عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.

أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر (٣).

وتحدث ابن حزم عما يجب اعتقاده في مسألة حفظ الله تعالى لكتابه فقال: إن القرآن المقروء المكتوب في المصاحف حق نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله عز وجل، حقاً لا مجازاً، وهو علم الله تعالى، وأنه محفوظ لم يُغيّر منه شيء ولا حرف، ولا زيد فيه حرف فما فوقه، ولا نقص منه حرف فما فوقه، قال الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:١٩٣ - ١٩٤]، وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:٤٩].

وقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:٧٧ - ٧٩].

وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:٩].

فمن قال إن القرآن نقص منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف، أو زيد فيه حرف، أو بُدّل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزّل ليس هو القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى؛ فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام (٤).

إن الاستهانة بالقرآن ناقض من نواقض الإيمان لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:

أ- أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان، فالإيمان مبني على إجلال الله تعالى وتعظيم كلامه، والاستهانة استخفاف واستهزاء، يقول الله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ [التوبة: ٦٥, ٦٦]، والإيمان: انقياد وخضوع، والاستهانة بالمصحف لا تجتمع مع هذا الانقياد والخضوع، فمن استهان بالمصحف، امتنع أن يكون منقاداً لأمر الله تعالى.

يقول ابن تيمية: إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدّان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد (٥).


(١) رواه البخاري (٣٧٠٦)، ومسلم (٢٤٠٤).
(٢) ((فتح الباري)) (٩/ ٦٥).
(٣) ((الموافقات)) (٢/ ٥٨, ٥٩) باختصار.
(٤) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص٢١٨ - ٢٢١) باختصار يسير.
(٥) ((الصارم المسلول)) (ص٥٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>