للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سب ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (١).

فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده ... )) الحديث (٢).

وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: (ما أراه على الإسلام) (٣).

وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد (يحتمل أن قوله (ما أراه على الإسلام) إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله (ما أراه على الإسلام) على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سبٍ لا يطعن في دينهم، نحو قوله (كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة ... ) (٤).

ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: (وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم) (٥).

وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض مع ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال: (من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً) (٦).

فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكافر، ويتعين تعزيره وتأديبه.

وأيضاً فرواية مالك: (من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن) (٧).

فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق.


(١) [١٠٥٩٢])) رواه مسلم (٢٥٤١).
(٢) [١٠٥٩٣])) رواه أحمد (٣/ ٢٦٦) (١٣٨٣٩) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١٠/ ١٩): رجاله رجال الصحيح, وقال الألباني في ((السلسة الصحيحة)) (٤/ ٥٥٦): إسناده صحيح على شرط البخاري.
(٣) [١٠٥٩٤])) انظر ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد))، للأحمدي (٢/ ٣٦٣، ٣٦٤).
(٤) [١٠٥٩٥])) ((الصارم المسلول)) (ص: ٥٧١).
(٥) [١٠٥٩٦])) ((الصارم المسلول)) (ص: ٥٨٦).
(٦) [١٠٥٩٧])) ((الشفا)) (٢/ ١١٠٨)
(٧) [١٠٥٩٨])) ((الشفا)) (٢/ ١١٠٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>