للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: فكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم؟ قلنا: قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة، فقد روى عبيدة قال: بعث إليَّ علي ... وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أبغض الاختلاف. وابن عباس قال: ولد أم ولد بمنزلتها، وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر، فيدل على موافقته لهم، ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة، واتفاقهم معصوم عن الخطأ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، ولو جاز ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه، ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره.

فإن قيل: فلو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعا حرمت مخالفته، فكيف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام؟ قلنا: الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون، وهذا من المظنون، فيمكن وقوع المخالفة منهم له مع كونه حجة، كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية، ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة، كذا ههنا) (١).

ويقال هنا أيضا: لا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، فأين النقل عن صحابي واحد بما يخالف هذا الإجماع؟!

٢ - ومن ذلك أيضا: إجماع الصحابة على انتقاض عهد الذمي بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مخالفة بعض الفقهاء في ذلك (٢)، قال شيخ الإسلام: (والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار) (٣).

إلى أن قال: (وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نُقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم، فصارت إجماعا. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية بأبلغ من هذا الطريق) (٤).

٣ - ومن ذلك: مسألة اشتراط المرأة على الرجل ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها أو بلدها، فقد حكى فيها ابن القيم إجماع الصحابة على أن الشرط لازم، مع مخالفة من خالف من الأئمة.

قال رحمه الله: (إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح، والشرط لازم. هذا إجماع الصحابة، فإنه صح عن عمر، وسعد، ومعاوية، ولا مخالف لهم من الصحابة، وإليه ذهب عامة التابعين، وقال به أحمد. وخالف في ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط، ولم يوجبوا الوفاء به) (٥).

٤ - ومن ذلك: الإجماع القديم على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه، وقد خالف فيه أبو حنيفة والشافعي (٦). قال شيخ الإسلام: (وكذلك مذهب مالك وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث مما يؤكل لحمه، وعلى ذلك بضع عشرة حجة، من النص، والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجّس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام، أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك) (٧).


(١) ((المغني)) (١٠/ ٤١٤).
(٢) كالحنفية ووجه عند الشافعية، وينظر: ((تبيين الحقائق)) (٣/ ٢٨١)، ((مغني المحتاج)) (٦/ ٨٣)، ((المغني)) (٩/ ٢٨٣)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (٧/ ١٣٨).
(٣) ((الصارم المسلول)) (٢/ ٣٢).
(٤) ((الصارم المسلول)) (٢/ ٣٧٨).
(٥) ((إغاثة اللهفان)) (٢/ ٢٥)، وهذه الأمثلة الثلاث مستفادة من بحث مصوّر بعنوان: ((حكم تارك الصلاة عند شيخ الإسلام ابن تيمية))، لأحد الفضلاء، لم أقف على اسمه.
(٦) انظر: ((المبسوط)) (١/ ٥٤)، ((المجموع)) (٢/ ٥٦٧).
(٧) ((مجموع الفتاوى)) (٢٠/ ٣٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>