للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكما تحدث المفسرون عن الإظهار في موضع الإضمار تحدثوا عن حرف (من) في الآية، وهل هو لبيان الجنس أو للتبعيض.

فقال بعض المفسرين: إنها لبيان الجنس؛ لأن الجميع اخترن الله ورسوله والجميع محسنات (١)، وقال بعضهم بجواز: أن تكون للتبعيض؛ لأن اختيار الجميع لله ولرسوله لم يعلم وقت النزول.

والظاهر أن (من) هنا للتبيين لا للتبعيض؛ لأن علامة (من) التبعيضية صحة مجيء (٢) (بعض) مكانها، وهنا لا يستقيم وضع (بعض) مكانها، بينما التي لبيان الجنس تقدر بتخصيص الشيء دون غيره (٣)، وهو ما يناسب هنا، فكأن الآية: فإن الله أعد للمحسنات أخص أمهات المؤمنين أجراً عظيماً، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: ٣٠]، والمعنى: فاجتنبوا الرجس أخص الأوثان.

وغير خاف أنه على القولين لا إشكال في كون كل أمهات المؤمنين محسنات، وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالتعظيم (٤).

الفضيلة الخامسة: إبراز شرفهن وعلو منزلتهن:

وهذا الأمر وإن كانت الآيات تدل عليه صراحة أو ضمناً إلا أننا هنا سنبرزه في قوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠].

وقد يكون مستغرباً لأول وهلة كيف تدل هذه الآيات على شرف أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن -؟

والجواب هو بالنظر إلى الحكمة من وراء مضاعفة العذاب.

فقد ذكر أهل التفسير حكماً من وراء ذلك تدل على ما نحن بصدده، فمن هذه الحكم قولهم: (إن مضاعفة العذاب لشرف المنزلة وفضل الدرجة وتقدمهن على سائر النساء، فهن وإن كن كالنساء جبلة؛ فإنهن لسن كغيرهن شرفاً، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات (٥)، وزيادة قباحة المعصية تتبع زيادة الفضل) (٦)، وهذا التعليل لأكثر المفسرين (٧).

بل إن الرازي تأكيداً لهذا الأمر جعل نسبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرائر المسلمات، كنسبة الحرة إلى الأمة، فالحرة يضاعف عذابها على الأمة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يضاعف عذابها على الحرة (٨).

وقيل الحكمة من مضاعفة العقوبة لكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي قوي الأمر عليهن بسبب مكانتهن (٩)، وغير خاف أن هذا يعود للأول.

وقيل: لما فيه من كفران نعمة القرب، وهذا يعود للأول (١٠).

وقيل: لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم (١١).

وقيل: لأنه قد يقتدى بهن (١٢).

ولا مانع من صحة كل هذه الحكم.

وقد يستشكل مضاعفة العقوبة لما قد علم أن من كثرة حسناته يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره.


(١) ((الكشاف)) (٣/ ٢٥٩)، ((روح المعاني)) (٢١/ ١٨٢).
(٢) ((مغني اللبيب)) (١/ ٣٤٩).
(٣) ((رصف المباني)) (ص: ٣٨٩).
(٤) ((التحرير والتنوير)) (٢١/ ٣١٧).
(٥) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (٣/ ٥٦٧ - ٥٦٨).
(٦) ((حسن الأسوة)) (ص: ٨٥).
(٧) ((مفاتيح الغيب)) (٢٥/ ١٧٩)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (١٤/ ١١٣)، ((تفسير القرآن العظيم)) (٦/ ٤٠٨)، ((أضواء البيان)) (٣/ ٥٦٤).
(٨) ((مفاتيح الغيب)) (٢٥/ ١٧٩).
(٩) ((الجامع لأحكام القرآن)) (١٤/ ١١٣).
(١٠) ((الجامع لأحكام القرآن)) (١٤/ ١١٤).
(١١) ((جواهر العقدين)) (١/ ١٥٨).
(١٢) ((جواهر العقدين)) (١/ ١٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>