للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستشف بعض المفسرين تحقق الوقوع من التعبير بالماضي في (أعتدنا) دون المضارعة، يقول الطاهر بن عاشور: (والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: ٣١] لإفادة تحقيق وقوعه) (١).

وقد لحظ الرازي معنى لطيفاً في وصف الرزق بالكرم، يقول: (فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، أما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر؛ فهو الذي يأتي بنفسه؛ فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق) (٢).

وابن عطية مع أنه يرى – كبقية المفسرين – أن الرزق الكريم هو الجنة؛ إلا أنه يجوز أن يكون في ذلك وعد دنيوي، وهو أن أرزاقهن في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد وبرضا من الله من نيله (٣).

ولكن يضعف قوله أن لفظة الرزق الكريم وردت في القرآن الكريم خمس مرات لم يرد بها سوى الجنة، بل إن ابن عطية نفسه فسر الرزق الكريم في سورة النور (٤) بالجنة، وهذه الآية في (سورة النور) وثيقة الصلاة بآية الأحزاب من حيث إرادة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.

ومن لطائف هذه الوعود في الآية الكريمة أننا نلحظ إسناد فعل إيتاء أجرهن إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفاً لإيتائهن الأجر؛ لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل أعتدنا.

كما أن في إضافة الأجر إلى ضمير (ها) إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر (٥).

وهذه الأمور تميزت بها هذه الآية عن التي قبلها مما يظهر للقارئ تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب (٦).

الفضيلة الثامنة: تفضيلهن على عموم النساء:

وهو منطوق قوله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [الأحزاب: ٣٢].

قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات؛ أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم) (٧).

ولا إشكال عند المفسرين من حيث الجملة على دلالة هذه الآية، وإنما حصل الخلاف هل هذا التفضيل باعتبار الجملة أم باعتبار كل واحدة منهن على قولين:

القول الأول: أن هذا التفضيل باعتبار الجملة، فلو تقصينا النساء جماعة جماعة لم نجد جماعة تساوي جماعة أمهات المؤمنين (٨).

ونوقش هذا بأنه خلاف الأصل؛ فالأصل أن (أحداً) لشخص واحد فنبقيه على موضوعه ولا نتأوله بجماعة واحدة (٩).

وكأن الزمخشري – الذي رأى هذا القول – أراد المطابقة بين المتفاضلين، لكنه كان مستغنياً عن ذلك بحمل الكلام على واحدة ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء؛ أي كواحدة من النساء (١٠).

القول الثاني: أن هذا التفضيل باعتبار كل واحدة منهن وهذا قول أكثر المفسرين (١١).

وأورد على هذا القول أنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة الزهراء ولا قائل به.


(١) ((التحرير والتنوير)) (٢٢/ ٦).
(٢) ((مفاتيح الغيب)) (٢٥/ ١٨٠).
(٣) ((المحرر الوجيز)) (١٢/ ٥٦).
(٤) (آية: ٢٦).
(٥) ((التحرير والتنوير)) (٢٢/ ٥).
(٦) ((روح المعاني)) (٢٢/ ٢).
(٧) ((زاد المسير)) (٦/ ٣٧٨).
(٨) ((الكشاف)) (٣/ ٢٥٩)، ((روح المعاني)) (٢٢/ ٥)، ((فتح القدير)) (٤/ ٧٧).
(٩) ((البحر المحيط)) (٧/ ٢٢١).
(١٠) ((الكشاف)) (٣/ ٢٥٩).
(١١) ((تفسير الطبري)) (٢٢/ ٣)، ((المحرر الوجيز)) (١٢/ ٥٦)، ((زاد المسير)) (٦/ ٣٧٨)، ((مفاتيح الغيب)) (٢٥/ ١٨٠)، ((البحر المحيط)) (٧/ ٢٢١)، ((تفسير القرآن العظيم)) (٦/ ٤٠٨ - ٤٠٩)، ((محاسن التأويل)) (١٢/ ٤٤٩٥)، ((التحرير والتنوير)) (٢٢/ ٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>