للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيؤخذ من هذا أن طاعة المخلوقين جميعهم: حاكمهم ومحكوميهم مقيدة بأن تكون بالمعروف، والمعروف هو ما عرف من الشارع والعقل السليم حسنه أمرًا كان أو نهيًا، والحكم في ذلك هم العلماء الذين يستنبطون الحكم من الكتاب والسنة كما قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣]. إذا لم يكن الإمام عالمًا - مع أنه من شروطه - وكما شملت الآية السابقة أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ العلماء أيضًا، ولأننا أمرنا عند التنازع بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا ما يحمله علماء الشرع ويتعلمونه ويعلمونه. لذلك كله تكون طاعة الحكام تبعًا لطاعة العلماء وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعًا لهم، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء) (١) وكما قال عبد الله بن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذُّلَّ إدمانُها

وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها

وهل بَدَّل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا ... ولم تغل في البيع أثمانها

لقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي العقل إنتانها (٢)

ثانيًا: من السنة:

أما الأدلة على تقييد سلطة الإمام من السنة فكثيرة جدًا نأخذ منها ما يلي:

١ - ما رواه الخمسة وأحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (٣).

قال ابن القيم رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: (وفي هذا الحديث دليل على أن من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصيًا، وأن ذلك لا يمهد له عذرًا عند الله، بل إثم المعصية لا حق به، وإن كان لولا الأمر لم يرتكبها، وعلى هذا يدل هذا الحديث وهذا وجهه وبالله التوفيق) (٤).

٢ - ومنها ما رواه البخاري - واللفظ له - ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سريّة، وأمَّر عليها رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا وأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فرارًا من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذُكِرَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)) (٥).


(١) [١٣٢٢٤])) ((إعلام الموقعين)) (١/ ١٠).
(٢) [١٣٢٢٥])) ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (١/ ٣٢٧ - ٣٢٨).
(٣) [١٣٢٢٦])) رواه البخاري (٢٩٥٥)، ومسلم (١٨٣٩)، وأبو داود (٢٦٢٦)، والترمذي (١٧٠٧)، والنسائي (٧/ ١٦٠)، وأحمد (٢/ ١٧) (٤٦٦٨).
(٤) [١٣٢٢٧])) انظر: ((تهذيب سنن أبي داود)) (٧/ ٢٠٨).
(٥) [١٣٢٢٨])) رواه البخاري (٧١٤٥)، ومسلم (١٨٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>