للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: (كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبادتهم إنما كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صَلُّوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال) (١) يقصد حديث: ((تعس عبد الدينار)) (٢). وروى الطبري بسنده إلى ابن جريج عند قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ ... الآية [عمران: ٦٤]، قال: (لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله) (٣).

لذلك فمن أطاع العلماء والأمراء فيما فيه معصية لله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله عز وجل، وهذا شرك وعبادة لهم من دون الله، وأي ذنب أكبر من أن يتخذ الإنسان الآخر ربًّا مُشَرِّعًا يطيعه في معصية الله، ويحرم عليه ما أحلّ الله له.

والطاعة في المعصية طاعة للطاغوت، وقد أُمِرنا بالكفر به، قال ابن تيمية: (والمطاع في معصية الله والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعًا أمره المخالف لأمر الله هو طاغوت) (٤).

من كل ما سبق يتبين أن طاعة الأئمة مقيدة بما ليس فيه معصية لله ورسوله، أما ما كان كذلك فلا طاعة لهم فيه كما نصت الأدلة. ويتبين لنا كذلك أن الطاعة للأئمة التي أمرنا الله بها وأوجبها على الرعية إنما هي طاعة مبصرة لا طاعة عمياء كما تنص عليها المصطلحات العسكرية في النظم الوضعية، وكما تنص عليها بعض الطرق الصوفية من إيجاب الطاعة العمياء على الشخص أمام مريده، أما الإسلام فلا ((إنما الطاعة في المعروف)) (٥) كما مرّ معنا في قصة أصحاب السرية وأميرهم وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم.

ولو أجيزت الطاعة في المعصية لكان هناك تناقض في الإسلام، إذ لا يعقل أن يحرَّم الشارع شيئًا ثم يوجبه (٦).

ويعلق الأستاذ أحمد شاكر على حديث: ((السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ... إلخ)) بقوله: ( ... ثم قَيَّد هذا الواجب - واجب الطاعة - بقيد صحيح دقيق، يجعل للمكلف الحق في تقديره ما كلف به، فإن أمره من له الأمر عليه بمعصية فلا سمع ولا طاعة، لا يجوز له أن يعصي الله بطاعة المخلوق، فإن فعل كان عليه من الإثم ما كان على من أمره، لا يعذر عند الله بأنه أتى هذه المعصية بأمر غيره، فإنه مكلَّف مسئول عن عمله، شأنه شأن آمره سواء.

ومن المفهوم بداهة أن المعصية التي يجب على المأمور ألا يطيع فيها الآمر هي المعصية الصريحة التي يدلّ الكتاب والسنة على تحريمها، لا المعصية التي يتأوّل فيها المأمور ويتحايل حتى يوهم نفسه أنه إنما امتنع لأنه أمر بمعصية مغالطة لنفسه ولغيره) (٧).

فهذا ردٌّ على الذين يرتكبون المعاصي بحجة أنهم قد أُمروا بها، فيقولون الإثم على من أمرنا لا علينا، والحق أن الإِثم على الآمر وعلى الفاعل، وكل ما سبق من أحاديث وأقوال للعلماء ردٌّ على زعمهم ومخادعتهم أنفسهم.


(١) [١٣٢٣٤])) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٦٤).
(٢) رواه البخاري (٢٨٨٧). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) [١٣٢٣٦])) ((تفسير الطبري)) (٣/ ٣٠٤).
(٤) [١٣٢٣٧])) ((مجموع الفتاوى)) (٢٨/ ٢٠١).
(٥) رواه البخاري (٧٢٥٧) , ومسلم (١٨٤٠) , من حديث علي رضي الله عنه.
(٦) [١٣٢٣٩])) ((النظام السياسي في الإسلام)) د. عبد القادر أبو فارس (ص: ٧٣).
(٧) [١٣٢٤٠])) انظر: حاشية المسند (٦/ ٣٠١) لأحمد شاكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>