للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم غدا من الغد: فقال ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟ قال: نعم، فركبوا جميعاً، فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا، خاوية على عروشها قال: أتعرف هذه الديار؟ فقال: نعم، ما أعرفني بها وبأهلها، هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني، والكف والقدم، والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

فأما سهل بن أبي أمامة، فقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وروى له مسلم وغيره، وأما ابن أبي العمياء، فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله، لكن رواية أبي داود للحديث، وسكوته عنه: يقتضي أنه حسن عنده، وله شواهد في (الصحيح). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص٢٦٢

ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوي بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة.

ففي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها - في شأن المخزومية التي سرقت، لما كلم أسامة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟!. إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (١).

وكان بنو مخزوم من أشرف بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين صلى الله عليه وسلم: أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر: أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت - وقد أعاذها الله من ذلك - لقطع يدها، ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن بنت غيره.

وهذا يوافق ما في (الصحيحين)، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: ((مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، محمم مجلود، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم قال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده: الرجم ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك، إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة: ٤١] (٢).

يقول: ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: ٤٤] وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٥] وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: ٤٧] في الكفار كلها. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ٢٩٤


(١) [١١٧٣])) رواه البخاري (٣٤٧٥) ومسلم (١٦٨٨).
(٢) [١١٧٤])) رواه مسلم (١٧٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>