للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ب- ومع تحرز أهل السنة في الأطعمة والأشربة وحرصهم على أكل الحلال .. إلا أنهم لم يتشددوا في ذلك فلم يحرموا ما أحل الله تعالى؛ كما وقع فيه بعض أهل البدع، بل كانوا وسطاً بين أهل الفجور والشهوات، وبين أصحاب الرهبانية والتشدد الذين حرموا ما أحل الله من الطيبات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: ٨٧ - ٨٨].

قال شيخ الإسلام: (نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات، وعن الاعتداء في تناولها، وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا، وقيل لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لابد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك) (١).

ج- رد أهل السنة على الذين حرموا ما أحل الله تعالى، فقرروا أن البيع والشراء حلال، وكذا سائر المباحات من أنواع المكاسب والمطاعم، كما ردوا على ما ادعاه بعضهم من إطباق الحرام وخلو الأرض من الحلال.

ولما غلب على طوائف من المتصوفة تحريم الحلال وترك المكاسب المباحة (٢)، قام بالرد عليهم المشتغلون بعقائد الصوفية الأوائل.

ومن ذلك ما قرره ابن خفيف بقوله: (ومما نعتقده أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأن من قال بتحريم المكاسب فهو ضال مضل مبتدع .. وإنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارة، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة.

وأن مما نعتقده أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض) (٣).

وقال الكلاباذي: (أجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث، وغير ذلك مما أباحته الشريعة عن تيقظ وتثبت وتحرز من الشبهات) (٤).

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال: أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده في هذا الزمان.

فكان من جوابه: (هذا القائل الذي قال: أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان. غالط مخطئ في قوله باتفاق أئمة الإسلام، فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل النسك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك، حتى الإمام أحمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة (٥).

إلى أن قال: ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر، وبناء على هذه الشبهة الفاسدة، وهو أن الحرام قد غلب على الأموال لكثرة الغصوب والعقود الفاسدة ولم يتميز الحلال من الحرام.

ووقعت مثل هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع ... ) (٦).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (١٤/ ٤٥٧، ٤٥٨).
(٢) انظر تفصيل ذلك مع الرد عليهم في كتاب ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (الباب العاشر).
(٣) ((الفتوى الحموية)) لابن تيمية (ص: ٤٥٨).
(٤) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص: ١٠٢، ١٠٣).
(٥) انظر تفصيل ذلك في كتاب ((الحث على التجارة)) للخلال.
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (٢٩/ ٣١١، ٣١٢) = باختصار، وانظر: (٢٩/ ٥٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>