للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد جاءت هذه الآيات بعد الحديث عن خلق النوعين: الإنس والجن في قوله تعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: ١٥]. ثم خاطب الله النوعين بالخطاب المتضمن لاستدعاء الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بآياته، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديده بقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ وتخويفهم من عواقب ذنوبهم وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن: ٤١]. ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم، وهذا كله صريح في أنهم هم المكلفون المنهيون المثابون المعاقبون (١).

وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع، قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها, ومجيء الآخرة والجزاء فيها، والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء، والفراغ في اللغة على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد، وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وقد قصد لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاء (٢)).

أما قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ [الرحمن: ٣٣]. فعلى الراجح من أقوال المفسرين أن هذا خطاب للجن والإنس في الآخرة (٣) عندما يجتمعون في صعيد واحد للحساب، حيث تكون الملائكة قد أحاطت بأقطار الأرض, وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً، كما قال تعالى: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: ٣٢ - ٣٣]. قال مجاهد: (فارين غير معجزين) (٤). وقال الضحاك: (إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هرباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: ١٧])، وعلى هذا فيكون المعنى: يا معشر الجن والإنس إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم في الآخرة فافعلوا. وقوله تعالى بعد ذلك: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩]. فيه دليل على إضافة الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنهما سوياً في التكليف (٥).

وكذلك ما ورد من الآيات في ذم الشياطين ولعنهم, والتحرز من غوائلهم وشرهم، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب، وهذه الخصال لا يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الأمر والنهي، وارتكب الكبائر وهتك المحارم مع تمكنه أن لا يفعل ذلك، وقدرته على فعل خلافه، وهذا كله يدل على أنهم مكلفون (٦).


(١) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤٢٢).
(٢) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤٢٢).
(٣) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (٣/ ٤١٩) ((تفسير القرطبي)) (١٧/ ١٦٩).
(٤) رواه الطبري في تفسيره (٢١/ ٣٨٢).
(٥) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: ٤٢٣).
(٦) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: ٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>