للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم رد على شبهة الجبرية بقوله: (فإن قال قائل: فإن كل تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت. وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فهداه للحق، ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم، فمعنى اللام في قوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ بمعنى (على) كقولك للرجل. أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي) (١).

وقال ابن كثير رحمه الله: (وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، قال عكرمة مختلفين في الهدى، قال الحسن البصري مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً، والمشهور الصحيح الأول. وقوله: إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. أي المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه وآزروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً) (٢).

ثم ساق حديث الافتراق، وسيأتي ذكر طرقه وتخريجه في الفصل الثالث من هذا البحث إن شاء الله تعالى.

ثم ذكر الأثر التالي عن طاوس: (عن ابن أبي نجيح عن طاوس أن رجلين اختصما إليه فأكثروا فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا فقال طاووس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ؟ قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة) (٣).

وقال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار بـ (ذلك) إلى شيئين متضادين، كقوله تعالى: لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: ٦٨]. ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: ٦٧]. وقال: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: ١١٠] وكذلك قوله: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [يونس: ٥٨].

وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى، لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم) (٤).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء. ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالون مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره.

إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فهداهم على العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية، والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.


(١) ((جامع البيان)) (١٢/ ١٤٤).
(٢) ((تفسير القرآن العظيم)) (٢/ ٤٦٥).
(٣) ((تفسير القرآن العظيم)) (٢/ ٤٦٥).
(٤) ((الجامع لأحكام القرآن)) (٩/ ١١٤ - ١١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>