للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا علم أن الله قد فطر الناس على الحق وأنزل إليهم ما يناسبهم علم أن الناس في غنى عن الكلام الذي عند إطلاقه قد يتضمن باطلاً، مثل علم الكلام الذي يقوم على الأوهام والشكوك وإن سماها علماء الكلام بالقواطع العقلية والبراهين، فإن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا ولم يعرفوا الكلام عن طريقة الجواهر والأعراض والمقاييس المنطقية والنظر العقلي المتعمق البعيد عن الفطرة. وفي هذا الصدد يقول أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور) (١).

ولزيادة البيان فإنه يقال: إن الله قد أكمل دينه، وشهد على خيرية القرن الأول، ففي إكمال الدين والشهادة بأن الصحابة كانوا خير الناس الدليل الواضح والحجة القاطعة بأن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبينة وحاصلة لهم.

أما إكمال الدين فإن الله تعالى قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: ٣]، فوضح من هذا أن الناس لا يحتاجون إلى شيء في أمور دينهم إلى نقل سوى القرآن والسنة بله الفلسفات الإلهية اليونانية، وقد جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) (٢). فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥١]، وقيل إنها نزلت في المشركين حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدقه، فبين الله تعالى أن في كتابه الكفاية. بل إن الله تعالى وصف كتابه بأنه برهان وشهد بذلك وكفى بالله شهيداً فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء: ١٧٤]، فالطريقة الاستدلالية البرهانية الصحيحة هي الطريقة الشرعية المبينة لمطالب الدين كلها والواعدة بكل خير والداعية إليه.


(١) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: ٩٨) و ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: ٢٢٨).
(٢) رواه أبو داود في ((المراسيل)) (٤٨٧)، والطبري (٢٠/ ٥٣)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (٢/ ٤٠ - ٤١). مرسلاً من حديث يحيى بن جعدة. قال ابن عبدالبر: ورواه الفريابي وابن وهب والحميدي وأبو الطاهر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء.

<<  <  ج: ص:  >  >>