للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بخَطِّ الحافِظ السِّلَفِيّ قال: واعْلَمَ أنَّهُ، أدَامَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، لَقي أَممًا وشاهَدَ عَرَبًا وعَجَمًا، لكنَّه يَلْق فيهم مثْل نَفْسه، ولم يُصَادِف إلَّا قاصرًا عن مَحَاسِنه، فَقِيْرًا إلى اقْتِبَاس فَضْله، ولَيْتَ شِعْري هل أعْجَبتهُ تلك الدِّيَار، وهل عَظُمَت في هِمَّته العَظِيمَة تلك الآثار، وهل تأمَّل وثَاقَة سُور حَلَب، وجَوْدَة مَوْقع الحِصْن من البَلْدَة، فما كان يَصْلح إلَّا له، وما كُنْت تصلح إلَّا لها (١).

قال: وأعْظَم من ذلك كُلّه في نَفْسِي، وأشَدّها إتْعابًا لفِكْري، وأكْثَرها مَؤُونة ونَفَقَة بحَدسي، مَلْعَب أفَاميَة، ولقد دُرْتُ فيه مِرَارًا، وقلَّبْتُ فِكْري في المُرَاد منها صُعُودًا وانْحِدَارًا، وتأمَّلْتُ ذلك البنَاء الهَائِل تأمُّلًا شَافِيًا، وأرْسَلتُ طَرْفي في عَجَائِبهِ فعادَ حَائِرًا خَاسِئًا، ولَم يَنْكشِف لي إلى هذه الغاية حَقِيْقَة المَغْزَى منها وبها، نَعَم؛ هل انْجَذَب إلى مَغْنَاطِيْس فَضْله شُعَرَاء مَعَرَّة النُّعْمَان، فإنِّي لَم ألْقَ فيها إلَّا شَاعِرًا، حتَّى قَدَّرْتُ عَوَامّهم؛ لو شَاؤوا لخَرَج كَلَامهم في تَعَاملهم وتَحَاوُرهم مَوْزُونًا مُقَفًّى لوفُور عَدَدِ الشُّعَراءِ فيها، ومُوَاتَاةِ الوَزْن والمَعَاني الجَيِّدة طَبعْ أَهْليها، وأظُنُّها تُوَلِّد الشُّعَراء طَبْعًا وخِلْقةً، كما تُوَلِّد بعض التُّرب أحْرَار البُقُول خَلصةً فيها وجبلَّةً، وهل أدْرَك أبا العَلَاء المَعَرِّيّ المَحْجُوب، حَجَبَ اللَّهُ عنه السُّوء، وهو أَدِيْبهم الرَّاجحِ، وعَالمِهم الفَاضِل، وشاعِرهم البَارِع، وعَهْدِي به رَاجِعًا من بَغْدَاد ولم يَصْح بجَانبَي لَيْلَهِ النَّهار، ولَم يقَع على شَبَابِه لوَقَائِع الدَّهْر غُبَار. وذَكَرَ تَمَام الرِّسَالَة.

وكان أبو الفَتْح هذا قد قَرَأ على أبي الحُسَين أحْمَد بن فَارِس، وكان بينَهُ وبين أبي القَاسِمِ ابن المَغْرِبيّ مُكَاتَباتُ.


(١) استمدَّه من شعر أبي العتاهية (ديوانه ٣٧٥)، وقد تقدم في ترجمته في الجزء قبله، وهو قوله:
أَتَتْهُ الخِلَافَةُ مُنْقَادةً … إليهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فلم تَكُ تَصْلُح إلَّا لهُ … ولا كانَ يَصْلحُ إلَّا لها

<<  <  ج: ص:  >  >>