بابٌ في ذِكْرِ نُبْذَةٍ من أخْبار ثُغُور الشَّام، وما كان تَجْري عليه أُمُوْرُها في صَدْر الإسْلَام
لم يزل الخُلَفَاءُ في صَدْر الإسْلَام مُهتَمِّين بأمْر الجِهاد، باذلين في ذلك من أنْفُسِهم نهاية الاعْتناء وغاية الاجْتهَاد، وقد ذَكَرنا فيما سَبَق من أَحْوال البِلاد الّتي قدَّمنا ذِكْرَهَا وبَيَّنا حالَها، وشَرحنا أمْرَها ما فيه كِفَايَة صالِحة، ودَلائل على ما قَصَدنا في هذا الباب وَاضِحة، وغير خاف ما كان في زَمنِ عُمَر وعُثْمان من الاهتمام بالثُّغُور الشَّاميَّة، وأنَّ مُعاويَة أغْزَى ابنَهُ يَزِيد حتَّى وَصَلَ إلى القُسْطَنْطِينيَّة، وأغزَى عَبْد المَلِك بن مَرْوَان ابنَه مَسْلَمَة الغَزَاة المَشْهُورة، وهي مَسْطُورَةٌ في التَّوَاريخ مَذْكُورَة، وأغْزَى الوَلِيدُ ابنَهُ العبَّاس مرارًا، وأوْسَع الرُّومَ بغَزَواتِه ذِلَّةً وصَغارًا، ورابط سُلَيمان بدَابِق سِنِين، وحَلف أنْ لا يَعُودَ منها حتَّى يَفْتحَ اللهُ القُسْطَنْطِينِيَّة على المُسْلِمِيْن، وجهَّز لفَتْحها أخاهُ مَسْلَمَة إلى أنْ اسْتَدعاهُ عُمَر بن عَبْد العَزِيْز إشْفاقًا على المُسْلِمِيْن ومَرْحَمة.
واهْتَمَّ -بعد بَني أُمَيَّة- بأمْر الثُّغُور أَمِير المُؤمِنِين أبو جَعْفَر المَنْصُور؛ فَعَمَرَها وحَصَّنَها وقوَّاها بالجُنْد وشَحَنها، وتَمَّمَ المَهْدِيّ ما شَرع فيهِ أبو جَعْفَر، وفَعَل مثلَهُ هارُون الرَّشِيد وأكْثَر، وغَزا المأْمُون فأدركتْهُ في غَزاته الوَفَاة، وقد عُرِفَ فِعْل المُعْتَصِم حين بلغَهُ نِدَاء المرأة؛ وقد غَدر بالمُسْلِمِيْن طاغيَةُ الرُّوم: وامُعْتَصِمَاه. واهْتَمَّ المُتَوكِّل في الثَّغْر بترتيب المراكب، وما زَال مَشْحُونًا من مُلُوك المُسْلِمِيْن بالرَّاجِل والرَّاكب إلى أنْ قَصُرت الهِمَمُ، ووَلِيَ مَنْ تَعَدَّى وظَلَم، واشْتَغَلُوا باللَّذات، وتَعاطَوا الأمور المُنْكرات، فضَعُفَ أمْر الثُّغُور واخْتَلّ، ووَهَى عقد نظامها وانحَلّ، فجَرَى ما ذَكَرْناهُ في بَابِ طَرَسُوس، وحَلَّ بالمُسْلِمِيْن من أعْداءِ الله الشِّدَّة والبُؤس.