ثلاث، قال: وما هي؟ قُلتُ: على أنْ لا أرَاك ضَاحِكًا إلى أحدٍ من خَلْقِ اللَّهِ، ولا مُشْتَغلًا بغرِ طَاعَة اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ولا تَعْمل عَمَلًا حتَّى أقُولَ لك. قال: قد فَعَلْتُ، وكان معي لا يُفَارقني في حَجٍّ ولا غَزْوٍ، فكُنْتُ أرَى منه أُمُورًا أعْلَم أنَّ اللَّه سيَرْفَعُه بها في الدُّنْيا والآخرة؛ من حسْنِ صَلَاتهِ، وكَثْرة صِيَامِهِ، وطُوْل صَمْتهِ، وقلَّةِ كَلامهِ.
فقُلْتُ له ذات يَوْم لأتَبَيَّنَ مَعْرفَة عَملِهِ: ألَا أشْتَري لك جَارِيَةً، فقال: وما أصْنَعُ بها؟ قُلتُ: ما يَصْنعُ الرَّجُل بمِلْكِ يَمِيْنهِ، فقال: لو أردْتُ هذا لَم أتْرُك أهْلي وأشْخَصُ عن وَطَني، وأخْرُج عن دُنْياي، ولكان لي منهم مقْنَعٌ، وفي المقَام معهم مُتَّسَعٌ.
فقُلتُ: أَلْقِ هذا الصُّوفَ عنكَ، فإنَّهُ قد أَثَّرَ ببَدَنكَ، وأنْهَكَ جِسْمَكَ، فقال: أتأمُرُني أنْ أُلْقي عنِّي ثَوْبًا أتقَرَّبُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ بخُشُونَتِه وبفَسَاعَة (a) رِيْحه، وأنا أرْجُو منه حُسْنَ الثَّوَاب عليه عند مُنْقَلبي إليه!.
قُلتُ: فهل لك أنْ تُفْطِر؛ فإنَّ الصِّيَامَ قد أنْحَلَكَ، والظَّمَأَ قد غيَّرك؟ فقال: سُبْحَان اللَّه، ما أعْجَبَ ما تأمُرني به! هل الدُّنْيا إلَّا يَوْمانِ؛ فيَوْمٌ قد مَضَى لي أو عليَّ، ويَوْمٌ أنا فيه لا أدْرِي بما يُخْتَمِ لي من رَحْمَةٍ أو عَذَابٍ، فإنْ عذَّبَني وأنا على حَالةٍ أتَقرَّبُ إليه بها فهو أجْدَرُ أنْ يعذِّبني إذا فَعَلْتُ أمْرًا أنا فيه مُقَصِّرٌ. قُلتُ: فصُمْ يَوْمًا وأَفْطِر يَومًا، فقال: ذلك صَوْمُ الأبْرَار ومَنْ أمنَ النَّار، الّذين عَلِمُوا أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ مُتَجاوزٌ عنهم، وقَابِل منهم، فأمَّا أنا فأنْتَ تَعْلَمُ أنِّي غير عَامِلٍ بما سِيْقَ في الكتاب من شَقاءٍ وسَعَادَةٍ، واللَّه لئن عَذَّبني اللَّه على طَاعَتِه أحَب إليَّ من أنْ يَغْفِر لي وأنا على مَعْصِيَته، على أنَّهُ غيرُ جَائر على مَنْ خَلَقَهُ، ولا مُعَذِّبًا له إلَّا بذَنْبٍ.
(a) كذا في الأصل وم، ولم ترد في نشرة كتاب السراج، ولعله: بفناعة، الفنع: طيب الرائحة، أراد انتشار رائحته. لسان العرب، مادة: فنع.