للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فسِرْنا حتَّى نَزَلنا على المَدِينَةِ، وأمَرَ (a) بالتَّأهُّب لقِتَالهم وهَجْمِ المَدِينَةِ، فرَأينا امْرأةً قد خَرَجَت من المَدِينَة، وجَاءت تتَخَطَّى النَّاسَ حتَّى وَصَلَتْ إلى السُّلْطانِ وأنا عندَهُ، فسَلَّمَتْ عليه فرَحَّب بها، وأكْرَمَهَا وأجْلَسَها، ثمّ قال لها: ما حاجَتُكِ؟ قالت: جئتُكَ أسْألُكَ أنْ تَهَبَ لي هذه المَدِينَة وأهْلَها، فقال: هؤلاء قد أظْهَرُوا العِصْيَانَ والشِّقَاقَ، وقد أقْسَمْتُ أنْ أسْتَبيح دِمَاءَهُم وأمْوَالَهم، فقالت: بل تَرْجعُ عن هذا إلى المُعْتَادِ من صَفْحك وكَرَم عَفْوكَ، وتَهَبَ لي ذَنْبهُم ودِماءَهم وأمْوَالَهم، فقال: ما أفْعَلُ، ولا أُفْسدُ مَمْلكتي وأسْتَدْعِي عِصْيَانَ رَعيَّتي بصَفْحي عن هؤلاء المُنَافِقين، فغَضِبَتْ، وقامَتْ، وقالت: نَسِيْتَ حَقِّي وحُرْمَتي واطَّرَحْتَني، حتَّى أنِّي أسْألُكَ في مَدِينَةٍ من مَدَائنكَ لتَقْضِي بها حَقِّي، ولا تُوْجب (b) سُؤَالي! ثُمَّ ولَّت، فأطْرَقَ، ثُمَّ قال: رُدُّوها، فلمَّا عادَت اعْتَذَر إليها وتلَطَّفها، وقال: قد وَهَبْتُ لكِ البَلَدَ وأمْوَالَ أهْلِهِ (c) ودِمَاءَهُم، وها أنا رَاحِلٌ، ثُمَّ أمرَ النَّاسَ بالرَّحِيْل، ونفَّذَ مَنْ رَتَّبَ أمْرَ البَلَدِ وسَار.

فسَألْتُ عن تلكَ المَرْأةِ، فقيل لي: إنَّ هذه امْرأةٌ كانت تُرْضِعُهُ، وكان أبُوه مَالِكَ هذه البِلادِ فقام عليه أخُوه فقَتَلَهُ، ومَلَكَ البِلادَ، وهذا إذ ذَاكَ طِفْلٌ، فتطلَّبَهُ عَمُّه ليَقْتُلَهُ، فخَبَّتْهُ هذه المَرْأةُ بينها وبين ثِيَابها، وأخْفَتْهُ، وخرَجَتْ به من البَلَدِ فربَّتْهُ في خُمُولٍ، واخْتَفَى حتَّى كَبِرَ وجَارَ عَمُّهُ على الرَّعِيَّةِ، وأسَاء إليهم، فوَثَبوا عليه [و] قَتَلُوهُ، ونفَّذُوا وأحْضَرُوا هذا ومَلكُوه عليهم كما تَرَى، فهي تُذَكِّرُه بما فَعَلتهُ في حَقِّهِ، وهو يَرْعَى لها ذلك الصُّنْعَ.


(a) م: وأمرنا.
(b) م: توجيب.
(c) م: أهلها.

<<  <  ج: ص:  >  >>