للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

===

فلم أشْعُر إلَّا وضَرْبة بين كَتِفي بكَفٍّ ألْيَن من الحَرِير، فالْتَفَتُ، فإذا أنا بجَارِيةٍ من بَناتِ الرُّوم لَم أرَ وَجْهًا أحْسَن منها، ولا أعْذَب مَنْطِقًا، ولا أرَقَّ حَاشِيةً، ولا ألْطَف مَعْنىً، ولا أرَقَّ إشارَة، ولا ألْطَف مُحاوَرة منها، قد فاقَت أهْل زَمانها ظرْفًا وأدَبًا وجَمالًا ومَعْرِفة، فقالت: يا سَيِّدي، كيفَ قُلْتَ؟ فقُلْتُ:

لَيْتَ شِعْري هل دَرَوْا … أيَّ قَلْب مَلَكُوا

فقالت: عَجبًا منْكَ وأنت عارِف زَمانك تَقُول مثل هذا! أليس كُلّ مَمْلُوك مَعْرُوف، وهل يُصْبِح المَلِك إلَّا بعد المَعْرِفة، وتَمَنِّي السُّعُود يُؤْذِن بصَدْمها، والطَّريْق لِسَان صِدْق، فكيفَ تَتَجاوَز مثْلك، قُلْ يا سَيِّدي ماذا بعده، فقُلْتُ:

وفُؤادِي لو دَرَى … أيّ شِعْبٍ سَلَكُوا

فقالت: يا سَيِّدي، الشِّعْبُ الَّذي بين الشِّغَاف والفُؤاد وهو المانِع له من المَعْرِفة، فكيفَ يَتَمنَّى مثْلكَ ما لَم يَتَمكَّن أو يُمكن الوصول إليه، والطَّريْق لسَان صِدْق. قُلْ ما بَعْدهُ يا سَيِّدي، فقُلْتُ:

أتُرَاهُم سَلِمُوا … أم تُرَاهُم هَلَكُوا

قالت: أمَّا هم فسَلِمُوا، ولكن عنك؛ يَنْبغي أنْ تَسَل نَفْسكَ، هل سَلِمْتَ أو هَلَكتَ؟ فما قُلْتَ بعده؟ فقُلْتُ:

حارَ أرْباب الهَوَى … في الهَوَى وارْتَبَكُوا

فصَاحَت، وقالت: واعَجبًا، كيفَ يَبْقَى للمَعْشُوق فضْلةٌ يحار بها، واللَّهْو شَأنه التَّنْغِيم، يُخَدِّر الحَوَاسّ، ويُذْهِب العُقُول، ويُدْهِش الخَواطِر، ويَذْهَب بصَاحِبه في الذَّاهِبين، فأينَ الحَيْرَة هُنا والطَّريْق لِسَان صِدْق، والتَّجَوُّز من مثْلك

<<  <  ج: ص:  >  >>