للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

===

فأمَرَ، فبُنِيَت له في مَوْضع العَرْض مَصْطَبَةٌ، وبُسِطَ له عليها الفُرُش الفاخِرة، ثُمَّ جَلَسَ ونادَى مُنادِيه: لا يقَينَّ أحَدٌ من المُقاتِلَة إلَّا حَضَرَ للعَرْضِ، فاجْتَمعُوا، ولَم يَرَ كِسْرَى، فأمَرَهُم فانْصَرفُوا، وفَعَلَ ذلك في اليَوْم الثَّاني، ولم يَرَ كِسْرَى فيهم، فأمَرَهُم فانْصَرفُوا، فنَادَى في اليَوْم الثَّالث: أيُّها النَّاس، لا يَتَخلفنَّ من المُقاتِلَة أحَدٌ، ولا مَنْ أُكرِمَ بالتَّاج والسَّرير، فإنَّهُ عَرْضٌ لا رُخْصَة فيه ولا مُحَاباة.

وبَلغَ كِسْرَى ذلك، فتَسَلَّح بسِلَاحِهِ، ثُمَّ رَكِبَ فاعْتَرَض على بَابَك، وكان الَّذي يُؤخذ به الفارِس تِجْفافًا ودِرْعًا وجَوْشَنًا وبَيْضَةً ومِغْفَرًا وساعِدَيْن وسَاقَيْن ورُمْحًا وتُرْسًا وجُرْزًا تلزمه مَنْطقة وطَبرزينًا وعَمُودًا، وجُعْبَة فيها قَوْسان بوَتَريهما وثلاثين نُشُّابَة، ووَتَرين مَلْفُوفَيْن يُعَلِّقهما الفارِس في مِغْفَرهِ ظَهْريًّا، فاعْتَرَض كِسْرَى على بَابَك بسِلَاحٍ تامٍّ، خَلا الوَتَرين اللَّذين يَسْتَظهر بهما، فلم يَجُز بَابَك على اسْمِه، فذكَرَ كِسْرَى الوَتَرين فعَلَقهُما في مِغْفَرِه، واعْتَرَضَ على بَابَك، فاجازَ على اسْمِه، وقال: لسَيِّد الكُماة أرْبَعة آلاف دِرْهَمِ ودِرْهَم، وكان أكْثَر مَاله من الرِّزق أرْبَعة آلاف دِرْهَم، ففَضل كِسْرَى بدِرْهم واحدٍ.

فلمَّا قام بَابَك من مَجْلِسه، دَخَلَ على كِسْرَى، فقال: أيُّها المَلِك، لا تَلُمني على ما كان من إغْلاظِي، فما أرَدْتُ به إلّا الدُّرْبَة للَعْدَلةِ والإنْصاف، وحَسْم مادَّة المحاباة، قال كِسْرَى: ما أغْلَظَ علبنا أحدٌ فيما يُرِيد به إقامَة أَوْدنا وصَلاح مُلْكنا إلَّا احْتَملنا له غِلْظَته، كاحْتِمال الرَّجُل شُرْب الدَّوَاء الكَرِيه لِمَا يرْجُوه من مَنْفَعتهِ" (١).


(١) وفيات الأعيان ٦: ٤٢٢ - ٤٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>