نَعَم، فعَدَا بين يَديه وهارُون يَتْلُوه حتَّى جاءَ القَرْيَةَ، فأخْرَجَ مِفْتاحًا، ففَتح بابًا، وخرجَتْ منه صَبِيَّةٌ ظَاهرَةُ الوَضَاءَةِ يَبِبْنُ عليها سُوءُ الحالِ، وأخْرَجَ قدَحًا فغَسَلَهُ، ثمّ قال: يا سَيِّدِي تَشْربُ ماءً على الرِّيق! هل لكَ أنْ تَنْزل عندِي فتُصِيْب ما حَضَر وتشْرَبَ على أثر طَعامِك؟ فقال: نعم، فأنْزَلَهُ، وأخَذَ فَرَسَهُ فربَطَهُ، وأضْجَعَ عِجْلَةً فذبَحَها، واسْتَخْرج كَبِدَهَا، وأخْرَجَ دَقيقًا من كُوْزٍ له، فدفعَهُ إلى جَارَة له تُصَيِّرُ لَهُ منه فطِيرًا، ومَرَّ إلى الفَدَّان فَحَلَّهُ، وقَدْ شَوَى الكَبِد، وخَرَج الخُبْز من التَّنّور، فقَدَّمَهُ إلى أمِير المُؤمِنِين، وجلَسَ يأكُل معهُ.
قال أبي: ثمّ قام فجاءني من ذلك الفَطِير ومن تلكَ الشَّرَائح اللَّحْم، فقالَ: كُلْ، وعَمد إلى رَيْحانٍ كان على سَطْح بَيْتِهِ فوضَعَهُ بين يَدَيهِ؛ فقال: أتُنْشِدُ من الشِّعْر شيئًا؟ فأنشدَهُ من أشْعَار بني أُمَيَّةَ، وأنْشدَهُ في زَوالِ النِّعَم، فقال له: حَدَّثَني حَدِيثك، فوالله ما وَجْهُكَ بوجْهِ زَرَّاعٍ ولا بوَجْه مَنْ رَبِي في بُؤْس، فأخْبرَهُ أنَّهُ من وَلدِ سُلَيمان بن عَبد المَلِكِ وأنَّ هذه الصَّبِيَّة الّتي معَهُ أُختُه، وأنَّ بعضَ المَسَالِمَةِ خَطَبَها، فأَبَى عليه، وأنَّهُ هَرَبَ فنَزَل ها هُنا، فاسْتَأجَرَهُ وَكيْلُ القَرْيَة بعَشَرة دَرَاهِمَ على أنْ يُفرِدَ له بَيْتًا يكون فيه وفَدَّانهُ وأُخْتهُ، فبكَى هارون وقال: عَمَلٌ صَالح قبْل الغَزْو، فإنَّما النَّصْرُ والتَّمكين بخَوف اللهِ.
وجاءتِ الخُيُول، وحَفَّتْ بالمَوْضع، وقيل: أمِير المُؤمِنِين، أَمِير المُؤمنين! فقال: لا بأسَ عليكَ لَنْ تُرَع، فكَتَبَ إلى الّذي خَلَفَهُ بالإحْسان إلى بَني أُمَيَّةَ، وإدْرَار العَطَاءِ عليهم، ودَفَع إلى مَنْ اشْترَى له القَرْيَة الّتي هُوَ بها.
قال: قال أبي: فرأيتُ أَمير المُؤمِنِين يَبْكى ويقُولُ في سُجُودِه: إلَهى ارْحَمني بقَرابَتي من مُحَمَّد، ولا تجعَل مُحَمّدًا خَصْمِي، ومُوَبِّخى، ولا تُؤاخِذ الأُمَّة بذنُوبي، ثمّ صَلَّى الظُّهْرَ، فرَكِبَ، فنَزَلْنا حَلَب بعدَ المَغْرب، وهارُون مُنْكَسِر مُتَخليًّا بنَفْسه.