مَوجُودٌ بكُلِّ مكان لمَن أيْقَن ألا حَوْل ولا قُوِّة إلِّا بهِ. فاجْعَل الثِّقَة باللّهِ مُعوَّلكَ، والاعْتمادَ عليه ثِقَتَكَ، والتَّوَكّل عليه نصِيركَ، والطَّاعَة له سلاحَكَ وعُدَّتكَ، وإنْ نالكَ خيرٌ فاقْرنه بشُكرٍ، فإنَّ الشُّكْر على الخير زِيَادَةٌ في النّعْمَة، وإنْ يَمَسَّك ضَيْرٌ فاجْعل مَفْزَعك إلى اللّهِ.
وجِمَاعُ القَوْل: ارْضَ باللّه طَبِيباً يبِركَ من دَاءٍ البَطَر عند النّعَم، وذُلِّ الاسْتِكانَة عند حُلُولِ المحنِ، وتَعَوَّذ باللّه من الشَّيْطان كما أمَرَك يَحْرُسك من شَياطين الإنسْ والجِنّ، وتَعوَّذ بالله من شرِّ نَفْسكَ يَقِكَ مَصَارع هَواكَ. ازْجُرْ غَضَبَك بتَذكُّر الحال الّتي أنتَ عليها من عَجْزٍ أو قُدْرة، فإنَّ الغَضَب مع العَجْز يُظْهِرُ الزَّلَةَ والقِلَّة، والغَضَب مع القُدْرة يُظْهِرُ الطَّيْشَ والعَجَلة، وفي الحاجتَيْن جَمِيعاً تُعْدَم الحِلم والأنَاة، وحيثُ تُعْدَمُ الحِلم والأناةُ تُعْدَمُ الفِكْرةُ، وحيثُ تُعْدَمُ الفِكرةُ تُعْدَمُ الحِكمةُ، وحيثُ تُعْدَمُ الحِكمهَ تُعْدَم الخير كلُّه.
واعْلَم أنَّ الشَّهْوَة من أكْبَر أعْوَان الهَوَى، فَن قويت شهوتُه اشْتَدَّ حرصُهُ، ومَن اشْتدَّ حِرْصُه عَمِيَ عن مراشِدِه، ومَن عَمِيَ عن مراشدِه أخطر ببدنِه وديْنِهِ.
ونَقَلْتُ من كتابهِ في خدْمَة المُلُوك، قال: قال لي إنسان مرةً (١): لو صَحِبْتَ الأَمِير، أعزَّهُ اللّهُ، بِمَ كُنْتَ تخدمُهُ؟ فقُلتُ لَهُ: كنتُ أخْدمُهُ بأنْ لا أكْذِبَهُ إذا سَألَ، ولا أصدُقَهُ إذا سَكَت، ولا أخُونَه إذا وَلَّى، ولا أذُمُّه إذا عزلَ، ولا أُسَاعد له عَدُوًّا، ولا أُجالسُ مَنْ كان عندَهُ طَبِيباً، لا أسْألُ ما لم ينلْهُ نُظرائي، ولا أرْتَفعُ فَوْقَ قَدْري، لا أكْتَسِبُ بهِ من غيره، ولا أشْكُر على نِعْمَته سِوَاه، فإنْ حَسُن مَوْقعِي منه شَكَرتُه بالزِّيادَةِ فيما قَرَّبَ منهُ، وإنْ جَرَى المِقْدَارُ بخلَاف ذلك كُنْت غير لَائم لنَفْسي، ولا عاتب على فِعْلي.
(١) نُسِب هذا القول للكاتب حيدرة بن إسماعيل بن سالم، وأدرجه ابن العديم في ترجمته التالية (الجزء السادس) وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ.