للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واشَتمْلْتُ، وجَعَلْت أجُول بين الصَّفَّيْن، فتغيَّظ مِنِّي أمير الجَيْش وهو خُفَاف بن نُدْبَة، فقال: مَنْ هذا الّذي قد فلَّلَ جُمُوعَمُ وقَتَل أبْطَالكُم؟ قالوا: ما نَعْلمِ غير أنَّهُ بَطَلٌ، فقال: دونَكم فَرسِي الغَضْبَان، فأُتي بفَرَسِه، فركبَهُ وتَدَرَّعَ وخرَج وهو غَائِصٌ في الحَدِيْدِ، وبارَزني فتجاوَلنا، ومَضَتْ بيننا عَرْكات، ورأيتُهُ ثَبْتًا جريَّ الجنان، قَوِيَّ القَلْب لا رَعْدِيد ولا فَشل، فلمَّا لم يكُن لي معه شيءٌ خاتَلْتُه وأخَذْتُ من طَريق الخَدِيعَة، وقُلتُ: أخَذتُكَ ورَبّ الكَعْبَة، وأريْتُه أنّي أَضْرب رجلَيْهِ فاشْتَغَل بها، فضَرَبْتُ يدَهُ [فـ]ــأطرْتُها، ونَفَرت بهِ فَرَسُهُ فأرْدَتهُ، وحَمَل أصْحَابي (a) فأخَذُوه وهو حَيُّ إلَّا أنَّ يدَهُ قد ذَهَبَتْ ونصْف سَاعِده، فلمَّا علمُوا أنَّ رئيسَهُم قد مَضَى وقَع الصُّرَاخُ والبُكَاء وانْطَفَأ الحَرْبُ، وكَفَّ النَّاس وعلمُوا المَوَاتِيم.

وأتيْتُ طَرَّاِدًا، فقُلتُ لَهُ: ما هذه الحُرُوبُ؟ فأخَذَ يُحَدِّثُني، وقال لي: لولا أنَّ اللَّهَ مَنَّ علينا برجُلٍ لا أعْلَمُ مَنْ هو، غير أنِّي رأيتُ دَابَّتَهُ حَنْفَاءَ -وكانت فَرَسِي حَنْفَاء غير أنَّهُ لم لَكُن مثلها في السِّبَاق والرَّكْض- فقُلتُ لَهُ: إنْ رأيْتَ الفَارس (b) حَاسِرًا تَعْرفه، قال: نعم فحدَرْتُ لثَامِي، فقال: اللَّهُ أكْبَر، الأعْسَرُ ورَبِّ الكَعْبَة! مَرْحَبًا، وقام فقبَّل رَأسِي ورَأسَ بَني عَمِّي، وكان صَحبَني (c) من الحِلَّة خَمْسٌ من بَني عَمِّي كانُوا معي في الحَرْب.

وبقي خُفَافٌ تلك اللَّيْلة إلى الصَّبَاح يَنْزف دَمُهُ، ولم تأتِ الظَّهِيْرَةُ حتَّى قَضَى نَحْبَهُ، ووعً في الحَيِّ البُكَاءُ والنَّحِيْبُ، وفرغُوا من أمْره، وأَخْذِ أُهْبَتِهِ ودُفِنَ، وكثُر البُكَاءُ والنَّحِيْب في بني قُشَيْر.


(a) كذا في الأصل، وب، ولعل مَن أخذه أصحاب خفاف بن ندبة.
(b) في الأصل: الفرس، وفي ب: الفرس سارحًا، وكتب ابن العديم في هامش الأصل: "صوابه: الفارس"، فاعتمدناه.
(c) ب: صحبتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>