للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأَقمْتُ عند طَرَّاد ثلاثًا، ثمّ ودَّعْتُهُ في اليَوْم الرَّابِع وقُلتُ: المُضيّ، قال: واللَّهِ لا أقمتَ عندي إلَّا عَشْرًا لأُكْرِمَكَ وأُقْضِي بعضَ واجب حَقِّكَ، فسَألَهُ بنُو عَمِّي الانْصراف فأذِنَ لهم بعد شِدَّة. فأقمتُ أنا (a) عنده يَوْمَيْن بعد ذلك، وكُنْتُ لا أصْبر عن الشَّرَاب؛ إنَّما هو قَوَام حَيَاتي، فقُلتُ لطَرَّاد: إنِّي أُرِيدُ الشُّرْبَ، قال: وكَرَامَة، وأَنْفَذَ فأتاني من بَعْض الحَانَاتِ بشَرَابٍ، فسَمَّطتُ طَعَامًا وشَرَابًا على فَرَسي وخَرَجْتُ ومعي عَشرةٌ من شَبَاب بَني أَسَد نَتَنزَّهُ ونشربُ، وأمْعَنَّا في السَّير إلى أنْ وَقَعْنا على مَوضع خَضِر نَضِرٍ فيه شَجَرٌ قد عَرَّشَ، وزَهْر قد انْفَرش، وماء جارٍ، ومَوضع طَيِّب، فشَرِبْنَا على الغَدِير إلى قُرْب العَصْر (b)، ثمّ فَني شَرَابُنا، فكَرَرْنا راجعين، فقال لي بَنُو عَمِّي: ترغَبُ في السِّبَاق إلى الحَيِّ؟ قُلتُ: نعم، وطَمعُوا فيَّ لأنَّهم رأوا دَابَّتي حَنْفَاءَ، فأطْلقنا أعنَّةَ خُيُولِنا ومَرَرنا سبَاقًا إلى الحِلَّة، فسبَقْتُهم أنا بأجْمَعِهم بنحو الميْل، ووَقَفْتُ على كَثيْب أحْمَرَ على ظَهْر الحِلَّة على نَشَزٍ منها أنتظِرُ أصْحَابيّ، فأنا واقفٌ إذ سَمِعْتُ بُكَاءً وشجًى وحَنِيْنًا وعَوِيْلًا، فالتفَتُ فإذا أنا (c) بجَارِيَةِ جَالسةٍ على قَبر مُبَيِّضٍ جديدٍ، وهي تَبْكي بُكَاءً شجيٍّ حَرِقٍ وتَنْدبُه وهي تقُول: [من السريع]

يا وَاحِدًا لسْتُ بنَاسيهِ … نَعَى إليَّ العَيْشَ نَاعيْهِ

واللَّه ما كُنْتُ أُرَى أنَّني … أقومُ في الباكيْنَ أبْكِيهِ

واللَّه لو لَم يُقْتَبَل فدْيَةٌ … لكُنْتُ بالمُهْجَة أفْدِيْهِ

بيَّضْتُ منك القَبْر يا سَيِّدِي … لأنَّني لَسْتُ بناسِيْهِ

عَاذلَتي في جَزَي أَقْصري … قد غَلَقَ الرَّهْن بما فيهِ

فبهتُّ أنظُر إليها، وإلى حُسْن وَجْهها، ورأيْتُ ما لم أَرَ مثلَهُ قَطّ، فخَاذَيْتُها،


(a) ب: ساقطة من ب.
(b) ب: إلى أن قربنا من العصر.
(c) في الأصل: فأنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>