للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضَّرُورِةُ إلى بَيْع ما صَحِبَنا من ثَوْبٍ وخِرْقَةٍ إلى أنْ لَم يَبْقَ لنا ما كُنَّا نَرْجُو حُصُول قُوْت يَوْم منهُ، وطَوَيْنا ثلاثة أيَّامٍ بلَيَاليها جُوْعًا وسُوءَ حالٍ، ولم يَذُق أحَدٌ منَّا فيها شيئًا، وأصْبَحْنا بُكْرة اليَوْم الرَّابِع بحيث لا حَرَاك بأحَدٍ من جُمْلتنا من الجُوْع وضَعْف الأطْرَاف، وأحْوَجَت الضَّرُورَة إلى كَشْف قِنَاعَ الحِشْمَةِ، وبَذْلِ الوَجْهِ للسُّؤَال، فلَم تَسْمَح أنْفُسُنَا بذلك، ولم تَطبْ قُلُوبُنا بهِ، وأَنِفَ كُلُّ واحدٍ منَّا عن ذلك، والضَّرُورةُ تُحْوِجُ إلى السُّؤَال على كُلِّ حالٍ، فوغَ اخْتِيَار الجَمَاعَة على كَتبَةِ رِقَاعٍ بأسَامِي كُلّ واحدٍ منَّا، وأرْسَالها قُرْعةً، فَن ارْتَفَع اسْمُه عن (a) الرِّقَاعَ كان هو القَائِم بالسُّؤَال واسْتِماحَةِ القُوْت لنَفْسِه ولجَيعْ أصْحَابهِ، فارْتَفَعَت الرُّقْعَة الّتي اشْتَملتْ على اسْمي، فتَحَيَّرَتُ ودُهِشْتُ، ولَم تُسَامحْني نَفْسِي بالمَسْألَةِ واحْتِمَال المَذَلَّةِ، فعَدَلْتُ إلى زَاوِيَةٍ من المَسْجِد أُصَلِّي رَكْعَتَين طَوِيْلتَيْن؛ قد اقْتَرن الاعْتِقَادُ فيها بالإخْلَاص، أدْعُو اللَّهَ سُبْحَانهُ بأسْمائهِ العِظَام، وكَلِمَاته الرَّفِيْعَة، لكَشْف الضُّرّ، وسيَاقَة الفَرَج، فلم أفْرغُ بَعْدُ عن إتْمام الصَّلاة حتَّى دَخَل المَسْجِدَ شَابٌّ حَسَن الوَجْهِ، نَظِيْف الثَّوب، طَيِّبُ الرَّائِحَة، يتبَعُه ضَادِئم في يَده منْدِيلٌ، فقال: مَنْ منْكُم الحَسَنُ بن سُفْيان؟ فرَفَعْتُ رَأسِي من السَّجْدَة، فقُلتُ: أَنا الحَسَنُ بن سُفْيان، فما الحاجَةُ؟ فقال: إنَّ الأَمِيرَ ابن طُوْلُون صَاحبي يُقْرئكُم السَّلامُ والتَّحِيَّة، ويَعْتَذرِ إليكم في الغَفْلَة (b) عن تَفَقُّد أحْوَالكم، والتَّقْصِير الوَاقِع في رعايةِ حُقُوقكُم، وقد بَعثَ بما يَكْنِي نَفَقَة الوَقْت، وهو زَائِركُم غَدًا بنَفْسه، ويَعْتَذر بلفْظه إليْكُم، ووَضَعَ بين يَدَي كُلّ واحدٍ منَّا صُرَّةً فيها مائةُ دِيْنارٍ.

فتَعَجَّبْنا من ذلك جدًّا، وقُلْنا للشَّابِّ: ما القِصَّةُ في هذا؟ فقال: أنا أحَدُ خَدَم الأَمِير ابن طُوْلُون المُخْتَصِّين بهِ والمُتَّصِليْن بأقْربائه (c) وخَوَاصّ أصْحَابهِ،


(a) كذا في الأصل، وفوقها حرف "صـ"، والمثبت موافق لما في تاريخ ابن عساكر.
(b) ابن عساكر: الفضلة!.
(c) كذا رسمها في الأصل، والباء مهملة، ويحتمل أن يكون الراد: أقرانه، وعند ابن عساكر: بإقرائه.

<<  <  ج: ص:  >  >>