للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجاءَنا من طَرَب القَوْم - يا أمير المُؤْمنِين - شيء خَشِيْتُ أنْ يخرجُوا من عُقُولهم، فأمْسَكْتُ سَاعةً حتَّى هَدَأوا ممَّا كانُوا فيه من الطَّرَب، ثُمّ انْدَفَعُوا في الشُّرْب بالصُّرَاحِيَّات صَرْفًا على ذلك الطَّرَب، فانْدَفعْتُ أُغَنِّي بالصَّوْتِ الثَّالِثِ: [من البسيط]

هذا مُحبُّكَ مَطْويٌّ على كَمَدِه … حرَّى (a) مَدَامِعُهُ تَجْري على جَسَدِه

له يَدٌ تَسْأل الرَّحْمَنَ رَاحتَهُ … ممَّا بهِ ويدٌ أُخْرى على كَبِدهِ

يا مَنْ رَأى أَسِفًا (b) مُسْتهترًا أَسَفًا … كانت مَنِيَّته في عَيْنِه ويَدِه

فَجَعَلَت الجَارِيَة تَصِيْح: هذا واللهِ الغِنَاء يا سَيِّدِي!

وسَكر القَوْمُ، وخَرَجُوا من عُقُولهم، وكان صَاحب المنزل جَيّد الشُّرْب، حَسَن المعرفة، فأمَر غِلْمَانه مع غِلْمَانهِم بحِفظِهم وصرفهم إلى منازِلهم، وخلَوْتُ معهُ، فشَرِبْنَا أقْدَاحًا، ثُمّ قال لي: يا سيِّدِي، ذَهبَ ما كان من أيَّامي ضَائِعًا إذا كنتُ لا أعْرِفُكَ، فَمن أنْتَ يا مَوْلايَ؟ فلم يَزَل يَلَجُّ (c) عليَّ حتَّى أخْبَرتُهُ، فقامَ يُقَبِّل رَأسِي، وقال: يا سَيّدِي، وأنا أعَجْبُ يكون هذا الأدَب إلَّا من مثْلثَ، وإذا أنِّي مع الخِلَافَة وأنا لا أَشْعر! ثُمَّ سَألَني عن قِصَّتي؟ وكيفَ حَمَلتُ نَفْسِي على ما فعلْتُ؟ فأخْبَرتُه خَبَر الطَّعَام، وخَبَر الكَفّ والمِعْصَم. فقُلتُ: أمَّا الطَّعَام فقد نِلْتُ منه حَاجَتي، فقال: والكَفّ والمِعْصَمِ! ثُمَّ قال: يا فُلَانة - لجَارِيَةٍ له - قُوْلي لفُلَانة تنزل، فَجَعَلَ ينزل لي واحدةً واحدة، فأنْظُرُ إلى كَفِّها ومِعْصَمها، فأقُول: ليسَ هي، قال: والله ما بقي غير أُخْتي وأُمِّي، والله لأُنْزلهُما (d) إليكَ! فعَجِبْتُ من كَرَمهِ وسَعَة صَدْرهِ، فقُلتُ: جُعِلْتُ فدَاءَكَ، إبْدَأ بأُخْتِكَ قبل الأُمّ، فعَسَىَ أنْ تكون هي، فقال: صَدَقْتَ، فنَزَلتْ، فلمَّا رَأيتُ كَفّها ومِعْصَمها قُلتُ: هي ذِهْ.


(a) المسعودي: صبٌّ.
(b) المسعودي: كلفًا.
(c) المسعودي. يلحّ.
(d) المسعودي وابن عساكر: لأنزلنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>